الشيخ البصيلي يختتم المحاضرات التوجيهية لمراكز الدفاع المدني بعسير    الأخضر يختتم مشاركته في مونديال السلة الموحدة ببورتوريكو بحصاد فضية الرجال ورابع السيدات    الشورى : الميزانية تعكس نجاح الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية وفق رؤية المملكة    الجمعية السعودية الخيرية لمرض الزهايمر تحصد شهادة الاستثمار ذي الأثر الاجتماعي    ولي العهد وأمير قطر يشهدان توقيع اتفاقية تنفيذ مشروع قطار السعودية - قطر السريع    سوق الأسهم السعودية يغلق متراجعا وسط سيولة 3.5 مليارات ريال    5 محطات ركاب للقطار الكهربائي السريع بين الرياض والدوحة    أمير الرياض يطلع على المشاريع والخطط الإستراتيجية لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية    البديوي: تصريحات المسؤولين الإيرانيين مغلوطة ومرفوضة    شراكة استراتيجية بين مجموعة روتانا للموسيقى و HONOR توثق لحظات لا تتكرر انطلاقا من جلسة شعبيات محمد عبده    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الذوق العام    "العلا" تتوج عالميًا كأفضل مشروع سياحي    "إرث العقارية" تشارك بصفتها الراعي الماسي في مؤتمر سلاسل الإمداد 2025 وتعرض مشروع "مجمَّع سويفت اللوجستي"    انطلاق معرض جدة للكتاب 2025 الخميس المقبل    تجمع الرياض الصحي الأول يشارك في تفعيل النسخة الثانية من مبادرة "10KSA"    "التحالف الإسلامي" يطلق برنامج الاستخبارات التكتيكية بالرياض    ولي العهد وأمير قطر يرأسان مجلس التنسيق السعودي القطري    "التخصصي" يتوج بثلاث جوائز في مجال الخزينة وإدارة النقد بقطاع الرعاية الصحية    خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يهنئان الرئيس السوري بذكرى يوم التحرير    صلاح يهدد بالاستبعاد عن مواجهة انتر ميلان    الأهلي يتفق على تمديد عقد ميندي    إحالة منشأة تجارية إلى النيابة العامة لتداول أجهزة طبية مخالفة للنظام    4.8% نمو الاقتصاد السعودي خلال الربع الثالث من 2025    إصابة فلسطيني برصاص الاحتلال شمال مدينة القدس    أمانة القصيم ترفع جاهزيتها لاستقبال الحالة المطرية المتوقعة    الصناعات الإيرانية حاضرة في معرض المنتجات العربية والعالمية بمكة    عازم و تجمع عسير الصحي توقّعان مذكرة تفاهم لتنفيذ مشروع " خطوة "    ⁨الإسلام دين السلام لا إرهاب وعنف⁩    «أحياها» تشارك في ختام «دُرّة طلال» وتحتفي بتأهيل 25 مقدمة رعاية بالأحساء    ثلاث مدن سعودية تنضم إلى شبكة اليونسكو العالمية لمدن التعلّم    ارتفاع أسعار النفط    تايلاند تشن غارات جوية ضد أهداف للجيش الكمبودي    التدخل العاجل ينقذ 124 حالة بمستشفى أجياد    أمير نجران يطلع على سير العمل في قطاعات الأمن العام    للعام الخامس على التوالي.. يزيد الراجحي يتوج ببطولة السعودية تويوتا للراليات الصحراوية    ميسي يقود إنتر ميامي للقب الدوري الأمريكي    لا تلوموني في هواها    في معرض "أرتيجانو آن فييرا" بمدينة ميلانو.. «الثقافية» تعرف العالم بتاريخ وثقافة السعودية    اعتمد لجنة لتطوير الحوكمة.. «الألكسو» برئاسة السعودية: إنشاء المركز العربي لدعم المسار المهني    العزف على سيمفونية حياتك    حماس تشترط انتهاء الاحتلال لتسليم السلاح    «الدعم السريع» يقصف المدنيين في كردفان    آل الشيخ يطلق النسخة الثانية من مبادرة «ليلة العمر».. رسم بداية جديدة لشباب الوطن    «سار» تحصد جائزة أفضل مركز اتصال بقطاع السفر    اشتراط تفعيل الجواز للسفر بالهوية الوطنية    أكد أن العملية على وشك الانتهاء.. المبعوث الأمريكي: اتفاق السلام في أوكرانيا في «الأمتار العشرة»    نتائج المسح الصحي الوطني لعام 2025.. 95.7 % من البالغين لديهم تغطية ل«نفقات الرعاية»    السمنة تسرع تراكم علامات الزهايمر    جامعة الطائف تكشف بدراسة علمية عن مؤشرات فسيولوجية جديدة للمها العربي في بيئته الطبيعية    زراعي عسير: أكثر من 6 ملايين ريال عائد اقتصادي للعمل التطوعي    الجوازات تضع شرطا للسفر لدول الخليج بالهوية الوطنية    إنه عمل غير صالح    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    تتم عبر تصريح «نسك» للرجال والنساء.. تحديد زيارة الروضة الشريفة ب«مرة» سنوياً    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله.. ويعلن انضمام أمانة الرياض لعضوية المنظمة العالمية "ISOCARP"    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. "التخصصات الصحية" تحتفي ب 12,591 خريجًا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظريات علم البحار في التراث الاسلامي وعلاقتها بالأفكار الحديثة
نشر في الحياة يوم 18 - 01 - 1998

تعنى علوم البحار والمحيطات بدراسة البحار والمحيطات من حيث هي بيئة متكاملة لها جوانبها الطبيعية والكيميائية والجيولوجية والحيوية وغيرها. ويعتقد بعض المؤرخين الغربيين بان علم البحار والمحيطات من العلوم الحديثة التي لا جذور لها في تاريخ الحضارات السابقة، فزعم الايطاليون ان المؤسس الحقيقي له هو مواطنهم لويجي فرناندو مرسيلي 1658- 1730 الذي ألف فيه رسالة بعنوان "التاريخ الطبيعي للبحر" ويؤكد البريطانيون ان سير جون موراي هو صاحب الفضل الاول في استحداث هذا المبحث المهم عندما أشرف على رحلة سفينة الابحاث البريطانية "تشالنجر" التي استغرقت ثلاث سنوات ونصف السنة بين كانون الاول ديسمبر 1872 وايار مايو 1876، وقام بدراسة شاملة لمحيطات الكرة الارضية. اما الاميركيون فيزعمون ان ضابط البحرية الاميركية ماتيوس فونتين موري 1806- 1873 هو الأحق بأن ينسب اليه هذا الفضل لأنه جمع معلومات كثيرة من "قباطنة" السفن بحكم عمله كمشرف على المرصد البحري في واشنطن، وكتب في ذلك مؤلفاً بعنوان "الجغرافيا الطبيعية للبحر".
وحقيقة الأمر، المنغمسة في هذه المغالطات التاريخية، هي ان علاقة الانسان بالبحر قديمة قدم التاريخ الانساني ذاته، وبخاصة ان هذه العلاقة توطدت وتطورت بمرور الزمن بعد أن وجد الانسان في البحر مصدراً من مصادر الرزق، ووسيلة من وسائل النقل، فأنس له وتجرأ على ركوبه والسفر فيه.
ويشهد تاريخ الملاحة البحرية على ان استخدام الانسان للبحر في العصور القديمة، سواء لأغراض سلمية او حربية، إنما تم بالاستناد الي قدر مناسب من المعارف والخبرات المتعلقة بأمور البحر وظواهره. بل ان هناك ما يشير الى قيام القدماء برحلات بحرية قريبة الشبه الى حد كبير ببعثات البحث العلمي في وقتنا الحاضر، وما تزال اخبار مثل هذه البعثات منقوشة على جدران معبد الدير البحري في مصر.
ولم يتخلف العرب القدامى عن ركوب البحر الذي يحيط ببلادهم من جهات ثلاث. فقد كان عرب الجنوب خصوصا اصحاب علم ودراية بالبحر ومسالكه، وكانوا يبحرون في سفن كبيرة لأغراض التجارة مع الهند وجزر الملايو واندونيسيا وسواحل افريقيا. ونشطت في ذلك الوقت موانىء الاحساء والبحرين وعدن وعمان وموزا muza وهي مخا الحالية في اليمن، وأيلة وهي قريبة من السويس حاليا، او "القلزم" قديما في مصر.
وعندما قامت الدولة الاسلامية كان من الطبيعي ان تعتمد في اوائل عهدها على ابناء الامم التي دانت لها، وفيهم الملاحون المهرة الذين برعوا في صناعة السفن وأتقنوا قدراً مناسبا من الخبرة الملاحية. فتاريخ الحضارة البشرية لم تصنعه "المعجزة اليونانية" ولا "الحضارة الاوروبية" وحدهما، على حد زعم المتعصبين من مؤرخي العلم والحضارة، وانما ساهمت في صنعه أمم مختلفة في عصور متعاقبة على امتداد آلاف السنين. وكان للحضارة الاسلامية دورها الرائد والاساسي في دفع حركة التقدم والرقي إبان العصور الوسطى، بخاصة بعد ان استقر ملكها وطابت ثمارها وامتدت رقعتها من الشرق الى الغرب في موقع من الارض يتوسط حضارات الهند والصين والفرس شرقا، وحضارات روما واليونان غربا.
ويكفي ان نستدل على حقيقة هذا التفاعل الحضاري بين الامم على اختلاف أجناسها بما نجده في معجم المصطلحات الملاحية من ألفاظ كثيرة ترجع أصولها الى اللغات الفارسية او الهندية او اللاتينية او اليونانية او الصينية، بالاضافة الى اللغة العربية. فكلمة "أسطول" - على سبيل المثال- لاتينية، وكلمة "غليون" اسبانية، وكلمة "ربّان" فارسية، وكلمة "بارجة" هندية، وكلمات "اميرال" امير البحر، و"كابل" من حبل، و"فلوكة" من فلك عربية.
اهتم المسلمون بالبحر والملاحة البحرية كثيرا، وأكثروا من بناء السفن حتى ملأوا البحار بالجواري المنشآت، ووضعوا لها الاسماء بحسب اختلاف اشكالها وتباين أجرامها وحجومها وتنوع أغراضها. فهناك السفن الحربية مثل: "الحراقة" المخصصة لرمي النار على الاعداء، و"الحمالة" التي تستخدم لنقل المؤن والزاد للاسطول المصري في العصر الفاطمي، و"الشيني" التي تستخدم لحمل الجنود وتقام فيها ابراج وقلاع للدفاع والهجوم، و"العشاري" لنقل الجنود والعتاد، و"الغراب" وهي سفينة حربية سوداء اللون بسبب طلائها بالقار الاسود ومزودة بجسر من الخشب يستخدمه المحاربون للنزول على سفن الأعداء. وهناك من السفن التجارية: "الجلبة" والجهازي" و"الزخارف".
على انه مهما تعددت أنواع السفن وتنوعت حجومها، فهي لا تخرج عن كون جزئها السابح في الماء يشبه الحوت في عومه، وفي ذلك يقول ابن خلدون: "وهي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت واعتبار سبحه في الماء بقوادمه وكلكله ليكون ذلك الشكل
أعون لها في مصادمة الماء، وجعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح، وربما أعينت بحركة المجاذيف كما في الاساطيل".
وتجهز السفن عادة بالمعدات المساعدة في الملاحة، كالبوصلة والاسطرلاب والخرائط والصور ودفاتر الارشادات البحرية والاسلحة اللازمة للدفاع والهجوم.
ومن الطبيعي ان يكون تطور الملاحة البحرية مرتبطاً بتطور العلوم الاخرى كالفلك والأرصاد والجغرافيا والجيولوجيا وغيرها، كما يكون مرتبطا بتطور المعرفة بعلوم البحار والمحيطات وما يتعلق بدراسة طبيعة شواطئها وقيعانها، وصفات مياهها، وأنماط الحياة التي تزخر بها، والظواهر التي تنشط في قلبها وعلى سطحها مسببة الامواج والتيارات البحرية وغيرها. ويمكن ان نلمس الكثير من مظاهر هذا التطور الذي احرزه علماء المسلمين في كتب العجائب والجغرافيا وأدب الرحلات البحرية، فنجد المقدسي، على سبيل المثال، في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي يقول في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الاقاليم" في معرض حديثه عن المحيط الهندي: "وأما أنا فسرت نحو ألفي فرسخ ودرت على الجزيرة كلها من القلزم السويس حاليا الى عبادان، سوى ما توهت بنا المراكب الى جزائره ولججه. وصاحبت مشايخ فيه ولدوا ونشأوا من ربابين جمع ربّان واشاتمه جمع أشتيام: وهو مسؤول عن ادارة القتال في البحر ورياضيين ووكلاء وتجارة، ورأيتهم من أبصر الناس به وبمراسيه وارياحه وجزائره، فسألتهم عنه وعن أسبابه وحدوده، ورأيت معهم دفاتر في ذلك يتدارسونها ويعولون عليها ويعملون بما فيها".
والدفاتر التي ذكرها المقدسي في هذا النص ما هي الا كتب الارشادات الملاحية التي كانت تحتوي على الجداول الفلكية وخطوط عرض الموانئ، بالاضافة الى كل ما يحتاج الربان قائد السفينة والمسوؤل عن تسييرها الى معرفته من معلومات عن الرياح والسواحل والشُعاب والجزر والنجوم وغيرها، مما يساعد في الاهتداء في الملاحة، والاقتراب بالسفن من مراسيها.
ومن أقدم الكتب التي ألفها علماء الحضارة الاسلامية في علم الملاحة البحرية وفنونه، وما تزال مراجع عالمية لها قيمتها، كتاب "المترجم بالمدخل الكبير الى علوم البحار" الذي ألفه ابو معشر، وكتاب "الرهماني" الذي ألفه الثلاثة محمد بن شادان وسهل بن آبان، وليث بن كهلان في العصر العباسي. وقد دوّن العرب بعض هذه الارشادات الملاحية على شكل "أراجيز" تسهيلا لحفظها.
على ان أهم ما يذكر في علم الملاحة البحرية وارتباطه بعلم البحار عند المسلمين هو كتاب "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد" لشهاب الدين احمد بن ماجد السعدي النجدي، وفيه يوضح المؤلف تاريخ علم البحر والملاحة البحرية حتى القرن الخامس عشر الميلادي، ويلقي الضوء على مدى تأثر البرتغال بعلوم المسلمين وبالتقاليد الملاحية التي ارسوها في الملاحة البحرية بشكل عام، وفي المحيط الهندي بشكل خاص. ويبين ابن ماجد بشيء من التفصيل العلوم والثقافات التي يجب ان يلم بها ربان السفينة فيقول: "إن لركوب البحر أسباباً كثيرة، فأهمها وأولها معرفة المنازل والاختان والمسافات والقياس والاشارات وحلول الشمس والقمر والرياح ومواسمها، ومواسم البحر وآلات السفينة، وما يحتاج اليه... وينبغي ان تعرف المطالع والاستوايات، وجلسة القياس ومطالع النجوم ومغاربها وطولها وعرضها وبعدها وممرها، وينبغي ان تعرف الرياح والمد والجزر في كل طريقة، ويتفقد في احضان السفينة وآلاتها ورجالها، ولا يشحنها غير العادة...".
ويضيف ابن ماجد الى كل ذلك ما يسميه "علم الاشارات"، ويقصد به معالم السواحل والجزر وخصائص المياه وطبيعة القاع وقدراً من المعلومات عن الاسماك والطيور وحشائش البحر التي تعين الربان على التعرف على السواحل المختلفة. وتستغرق المعلومات الفلكية جانباً كبيرا من اهتمام ابن ماجد في مؤلفاته، ثم هو يطبق معلوماته على وصف الطرق الملاحية التي سلكها في المحيط الهندي بين موانئ الجزيرة العربية وسواحل افريقيا وآسيا وجزر اندونيسيا والبحر الاحمر.
وبذلك يكون ابن ماجد، وليس غيره من المحدثين، هو الذي أرسى أصول "علم البحار" كما نعرَّفه اليوم بأنه مجال تتجاذبه اختصاصات عدة لدراسات البحار والمحيطات من مختلف جوانبها الطبيعية والجيولوجية والبيولوجية والكيميائية والقانونية وغيرها. ولعل في هذا ما يؤهله لما سجله التاريخ في حقه من أنه قاد الملاح البرتغالي فاسكو دي غاما في سنة 904 ه/ 1498م في بحر العرب حتى وصل به الى مرفأ كاليكوت او كالكتا على الساحل الجنوبي الغربي من شبه جزيرة الهند. وفي تلك الرحلة كان مع ابن ماجد خارطة لجميع شواطيء الهند وعدد من الآلات والادوات التي تعكس المستوى المتقدم للملاحين العرب.
ايضا، كان سليمان بن احمد المهدي المتوفي بعيد 950 ه - 1553م ملاحا عربيا من حضرموت لا يقل مقدرة عن ابن ماجد، وله عدد من المؤلفات اهمها اثنان: "العمدة الهزية في ضبط العلوم البحرية" في الجانب العلمي النظري من الملاحة البحرية، ثم "المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر" في الجانب الفني العملي من الملاحة. ويرجع الفضل في اكتشاف مؤلفات ابن ماجد وسليمان المهدي لجهود المستشرق الفرنسي جبريل فران في الربع الاول من القرن العشرين.
تحدثنا مخطوطات التراث العلمي الاسلامي ان علماء المسلمين أسهموا في تطوير المعارف عن البحار والمحيطات والانهار، وقالوا بآراء متقدمة ونظريات علمية على اسس منهجية سليمة في حدود الضوابط والآليات المعرفية المعروفة في عصرهم. ومن أبرز هذه الآراء نظريتهم في نشأة البحار وتكوّن الاحواض البحرية، وهي التي قال بها الشيخ الرئيس ابن سينا مبيناً العلاقة التبادلية بين البحر واليابسة عبر العصور، حيث اهتدى بحدسه العلمي الى ان الارض كانت في مراحل تكونها الاولى كرة ملساء خالية من التجاعيد، يحيط بها غشاء شفاف من الماء. ومع مرور الزمن نشأت منخفضات تجمعت فيها المياه، وتحولت المياه عن مناطق اخرى، فظهرت اليابسة من تحت الماء، ثم أخذت مساحة اليابسة تزداد تدريجاً فينزاح عنها الماء ليجتمع في الاغوار على هيئة احواض مائية. وكان للعوامل الفلكية والمناخية والجيولوجية اثرها الفعلي في ظهور مواقع مكشوفة من الارض هي اليابسة، واخرى مغمورة بالمياه هي البحار.
يوضح ابن سينا تطور هذه العملية الكونية لنشأة الاحواض البحرية بقوله: "في طبيعة الارض ان تستحيل أجزاء منها ماء أو نارا، او غيرهما من الجواهر الاخرى، ولكن الجواهر قد تستحيل اجزاء منها ارضا، فما يستحيل من الارض الى غيره ينقص من جملة حجم الأرض، فيلزم ضرورة ان يقع هناك كلمة في تدوير الارض، وغور اذا كانت الارض يابسة لا تجمع الى شكلها الطبيعي... فيلزم ان يتولد على كرية الارض تضاريس من غور ونجد، وخصوصا، وللكواكب لا محالة، تأثير في ايجاد هذه الاحالة بحسب المسافات التي تتبدل بحسب حركتها، فيشبه ان تكون هذه اسبابا عظاما في إحداث المائية من جهة الى جهة، او تنقلها اليها... بتبخير الرطوبة وتصعيدها بالتبخير الى جهة خاصة من الارض، وإن كان واحد منها يعظم ويكثر على الدهر حتى يؤثر في هيئة شكل الماء لسيلان الماء الى الغور وكشفه للنجد... وقد أعان على هذا اسباب اخرى، إذ لا بد من حدوث طين بين الماء والارض، ولابد من نفوذ قوة الشمس والكواكب الى الطين وتحجيرها إياه اذا انكشفت حتى تتخلق الجبال، على ما قلناه، فاذا كان كذلك لم تكن بد من ان يكون براً وبحراً".
والباحث المدقق في هذا النص التراثي لابن سينا يمكنه الوقوف على حقيقة سبقه تاريخياً الى القول بأن الارض كانت في البداية متكاملة التكور، خالية من التضاريس، وهي الفكرة التي ينسبها المؤرخون الى العالم الانكليزي جوي راي في القرن السابع عشر الميلادي. كما ان هذه الفكرة تعتبر الاساس التاريخي لما أعلنه الالماني ألفريد لوتر فيجنر في اوائل القرن العشرين من أن جميع القارات كانت يوماً قارة واحدة عملاقة تضم كل اليابسة، وأطلق عليها اسم "بانجيا" في طبعة العام 1928 من كتابه "نشأة القارات والمحيطات".
ومثلما كان فيجنر يستند في نظريته الى الشواهد والبيانات التي جمعها من خلال دراسته عن المناخ قديماً، وعن الحفريات النباتية والحيوانية لكي يثبت ما لاحظه من تطابق بين كل من اميركا الجنوبية وافريقا على الخريطة، فإن الاساس النظري لفكرة ابن سينا المبنية على استحالة الجواهر، او العناصر الاساسية التي تتألف منها المواد في الطبيعة، وهي الماء والهواء والارض والتراب والنار حسب نظرية العناصر الاربعة القديمة. يعتبر أساسا ناضجاً ومنطقيا اذا ما نظرنا اليه برؤية موضوعية في سياقه التاريخي، بل انه يعتبر انضج واكثر منطقية من اعتقاد جون راي في العصر الحديث بأن نيراناً عظيمة في باطن الارض هي التي أحدثت تصدعاً كبيراً وانفجاراً مهولاً تحولت الارض على اثرهما الى كومة من الخراب والانقاض، فالمناطق التي ارتفعت شكلت اليابسة، وتلك التي انخفضت شكلت الاحواض البحرية.
كذلك يجد المتأمل في النص التراثي الذي أوردناه لابن سينا ان استحالة الماء الى الارض صخور ليست مجرد رأي فلسفي بحت بل هي واقع ملموس في نشوء الصخور الرسوبية في الاحواض البحرية، فالطين الذي يحدث بين الماء والارض هو الراسب الذي يتجمع على قاع البحر مما تحمله مياه البحر من مواد، وعندما تكشف هذه الرواسب فإنها تتحجر تحت تأثير اشعة الشمس وتبخير المياه، فتتحول الى صخور جديدة تضاف الى الصخور الاولية التي تتكون منها الارض. ومن هذه الصخور الجديدة، وتحت تأثير عوامل مختلفة، تتكون الجبال فيما بعد، ومن هذه الجبال تتكون القارات. من هنا نفهم ان القارات لم تنشأ لمجرد انحسار مياه البحر عن بعض المناطق، كما كان يعتقد ارسطو وغيره من فلاسفة اليونان، بل نتيجة لترسب وتكوين صخور جديدة ترسبت من مياه البحر بصورة تدريحية.
وهناك آراء اخرى متقدمة لعلماء المسلمين في ظواهر اخرى تتعلق بعلوم البحار، مثل علاقة البحر باليابسة، وحدوث الامواج والتيارات البحرية، وظاهرة المد والجزر، وغيرها، وسوف نعرض لها في مقال قادم إن شاء الله.
اسانيد المقال
د. سعاد ماهر، البحرية في مصر الاسلامية وآثارها الباقية، دار المجمع العلمي جدة 1399 ه- 1979م.
د. انور عبدالعليم، الملاحة وعلوم البحار عند العرب، عالم المعرفة، الكويت 1979.
د. حسن الباشا، البحرية الاسلامية، دائرة سفير للمعارف الاسلامية، القاهرة، ج 33-34، ص 70.
د.احمد فؤاد باشا، اساسيات العلوم المعاصرة في الترات الاسلامي، دراسات تأصيلية - دار الهداية، القاهرة، 1418 ه- 1997م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.