هل القرآنيون فئة ضلت السبيل.؟    شاطئ المرجان بشاطئ نصف القمر يواصل جذب الزوار والمتنزهين    رئيس مجلس الشورى يصل إلى دولة قطر في مستهل زيارة رسمية    في الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد: الشرع يتعهد بإعادة بناء سوريا قوية وعادلة    خيرية مرض ألزهايمر تحصد شهادة الأثر الاجتماعي    صبيا تُعيد رسم ملامحها الحضرية بخطوات متسارعة    هيئة الأدب والنشر والترجمة تستعد لإطلاق معرض جدة للكتاب 2025    فرع هيئة الصحفيين بعسير يرسخ عام من المنجزات    الرياض أول مدينة سعودية تنضم رسميًا إلى شبكة المدن العالمية    الشيخ البصيلي يختتم المحاضرات التوجيهية لمراكز الدفاع المدني بعسير    الأخضر يختتم مشاركته في مونديال السلة الموحدة ببورتوريكو بحصاد فضية الرجال ورابع السيدات    الشورى : الميزانية تعكس نجاح الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية وفق رؤية المملكة    5 محطات ركاب للقطار الكهربائي السريع بين الرياض والدوحة    أمير الرياض يطلع على المشاريع والخطط الإستراتيجية لهيئة المساحة الجيولوجية السعودية    شراكة استراتيجية بين مجموعة روتانا للموسيقى و HONOR توثق لحظات لا تتكرر انطلاقا من جلسة شعبيات محمد عبده    سوق الأسهم السعودية يغلق متراجعا وسط سيولة 3.5 مليارات ريال    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الذوق العام    "العلا" تتوج عالميًا كأفضل مشروع سياحي    "إرث العقارية" تشارك بصفتها الراعي الماسي في مؤتمر سلاسل الإمداد 2025 وتعرض مشروع "مجمَّع سويفت اللوجستي"    ولي العهد وأمير قطر يرأسان مجلس التنسيق السعودي القطري    "التحالف الإسلامي" يطلق برنامج الاستخبارات التكتيكية بالرياض    الأفواج الأمنية بجازان تقبض على شخص لترويجه 11 كيلو جرامًا من نبات القات المخدر    "التخصصي" يتوج بثلاث جوائز في مجال الخزينة وإدارة النقد بقطاع الرعاية الصحية    خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يهنئان الرئيس السوري بذكرى يوم التحرير    صلاح يهدد بالاستبعاد عن مواجهة انتر ميلان    الأهلي يتفق على تمديد عقد ميندي    إحالة منشأة تجارية إلى النيابة العامة لتداول أجهزة طبية مخالفة للنظام    أمانة القصيم ترفع جاهزيتها لاستقبال الحالة المطرية المتوقعة    أعمال قمة كوموشن العالمية 2025 في الرياض    إصابة فلسطيني برصاص الاحتلال شمال مدينة القدس    4.8% نمو الاقتصاد السعودي خلال الربع الثالث من 2025    الصناعات الإيرانية حاضرة في معرض المنتجات العربية والعالمية بمكة    عازم و تجمع عسير الصحي توقّعان مذكرة تفاهم لتنفيذ مشروع " خطوة "    ⁨الإسلام دين السلام لا إرهاب وعنف⁩    «أحياها» تشارك في ختام «دُرّة طلال» وتحتفي بتأهيل 25 مقدمة رعاية بالأحساء    ثلاث مدن سعودية تنضم إلى شبكة اليونسكو العالمية لمدن التعلّم    التدخل العاجل ينقذ 124 حالة بمستشفى أجياد    حماس تشترط انتهاء الاحتلال لتسليم السلاح    «الدعم السريع» يقصف المدنيين في كردفان    في معرض "أرتيجانو آن فييرا" بمدينة ميلانو.. «الثقافية» تعرف العالم بتاريخ وثقافة السعودية    اعتمد لجنة لتطوير الحوكمة.. «الألكسو» برئاسة السعودية: إنشاء المركز العربي لدعم المسار المهني    العزف على سيمفونية حياتك    أكد أن العملية على وشك الانتهاء.. المبعوث الأمريكي: اتفاق السلام في أوكرانيا في «الأمتار العشرة»    نتائج المسح الصحي الوطني لعام 2025.. 95.7 % من البالغين لديهم تغطية ل«نفقات الرعاية»    آل الشيخ يطلق النسخة الثانية من مبادرة «ليلة العمر».. رسم بداية جديدة لشباب الوطن    «سار» تحصد جائزة أفضل مركز اتصال بقطاع السفر    اشتراط تفعيل الجواز للسفر بالهوية الوطنية    للعام الخامس على التوالي.. يزيد الراجحي يتوج ببطولة السعودية تويوتا للراليات الصحراوية    ميسي يقود إنتر ميامي للقب الدوري الأمريكي    لا تلوموني في هواها    السمنة تسرع تراكم علامات الزهايمر    جامعة الطائف تكشف بدراسة علمية عن مؤشرات فسيولوجية جديدة للمها العربي في بيئته الطبيعية    نائب أمير الشرقية يطلع على أعمال فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بالمنطقة    تتم عبر تصريح «نسك» للرجال والنساء.. تحديد زيارة الروضة الشريفة ب«مرة» سنوياً    المجلس العالمي لمخططي المدن والأقاليم يختتم أعماله.. ويعلن انضمام أمانة الرياض لعضوية المنظمة العالمية "ISOCARP"    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين.. "التخصصات الصحية" تحتفي ب 12,591 خريجًا من برامج البورد السعودي والأكاديمية الصحية 2025م    أمير منطقة جازان يؤدى واجب العزاء والمواساة لإبراهيم بن صالح هملان أحد أفراد الحماية (الأمن) في وفاة شقيقته    أمير منطقة تبوك يكرم المواطن فواز العنزي تقديرًا لموقفه الإنساني في تبرعه بكليته لابنة صديقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصادق المهدي يشدّد على التنوع سبيلاً للإستقرار
نشر في الحياة يوم 18 - 06 - 2014

حرر زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي ملاحظاته الفكرية والتاريخية الجديدة حول السودان، في آذار (مارس) الماضي، ودقق فيها أثناء سجنه الأخير الذي استغرق شهراً، وتنشرها «الحياة» بعد أن أعطاها المؤلف عنوان «الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك».
في الملاحظات/ الكتاب محاولة تلمّس هوية السودان بعد انفصال جنوبه وتخبط نظام «الإنقاذ» الذي يحكمه. هنا الحلقة الأولى:
كان السودان طوال تاريخه ماعون تمازج بشري ناجح وصفته الشاعرة السودانية:
هنا انزرعنا على هذا الترابِ معاً
منوَّعين كأزهارِ البساتينِ
لا ينبغي أن يصرفنا عن حقيقة هذا التمازج مكايدات الاحتلال الأجنبي وإخفاقات الحكم الوطني في إدارة التنوع. مكايدات وإخفاقات تفسر معاناة حاضرنا الدموي.
وقد مارس السودانيون عقائد غير كتابية مشتركة مع مصر الفرعونية، ومستقلة عنها في ديانة أباداماك، وانفرد السودان بأنه استقبل الأديان الكتابية وتمددت فيه المسيحية سلمياً، ثم الإسلام. قاوم الغزو عندما كان خشناً وامتثل للقوة الناعمة.
الغزاة الذين غزوا مصر هموا بغزو السودان، ولكن أهله قاوموا الغزو الآشوري، الفارسي، الروماني والعربي الإسلامي. ومع الأخير بعد الاحتراب أبرموا اتفاقية تعايش هي الأنجح في حدود الدولة الإسلامية التاريخية. وكان العرب والمسلمون يسمونهم: رماة الحدق إشادة بدقة رميهم السهام. كذلك مع الحكم الروماني كانوا قد احتربوا مع الجيش الذي أرسله مؤسس الإمبراطورية الرومانية أوغسطس، ثم أبرموا معه اتفاقية سلام استمرت منذ 20 ق.م حتى القرن الثالث الميلادي.
وكانت الحضارة السودانية الكوشية أطول الحضارات الإنسانية عمراً، أطول من الفرعونية والرومانية، ممتدة من القرن الثامن قبل ميلاد المسيح إلى 543 م.
وفي التاريخ الحديث أظهر أهل السودان خاصية فريدة في التصدي للطغيان، حتى أنهم قبل ثورات الربيع العربي أطاحوا مرتين بالاستبداد في عام 1964، وفي عام 1985. قبل الثورات المماثلة التي انطلقت من تونس عام 2011.
ومع تنوع سكان السودان الثقافي والإثني، لاحظ أستاذ علم الاجتماع توري نوريستهام أن هناك قبائل مشتركة بين السودان وكثير من جيرانه: في مصر، وتشاد وإريتريا ويوغندا... إلخ. قال إن الذين في الجانب السوداني منهم يظهرون خصالاً إنسانية. إنهم أكثر تسامحاً، وأكثر مثالية، وأكثر ترابطاً اجتماعياً.
وفي عام 1988 جمعنا غداء في بيت السفير السوداني في عمان أحمد دياب، رحمه الله، حضره الأمير الحسن بن طلال (ولي العهد الأردني في ذلك الوقت) قال إنه حرص على حضور الغداء معنا ليشهد بوجود خصال سودانية مميزة: إنهم أكثر شعوراً بالكرامة، وأكثر تواضعاً، وأكثر تسامحاً، وأكثر مثالية، ثم قال أنا أسمي هذه الخصال إنسانيات سودانية.
ومع أهمية مراكز الإشعاع الديني في مصر وفي المغرب، فإن قراءة القرآن الأكثر انتشاراً في السودان هي قراءة الدوري بينما هي قراءة حفص في مصر وقراءة ورش في المغرب، والمذهب الديني الأكثر انتشاراً في السودان هو المالكي، إذا استثنينا الأنصار، والسلم الموسيقي السوداني هو الخماسي مثل كثير من أنغام أفريقيا جنوب الصحراء، بينما هو في الجوار العربي السلم السباعي. ومع قوة الاتصال الثقافي بين السودان وجيرانه المتحدثين باللغة العربية، فإن للسودانيين في اللغة العربية لهجة خاصة بهم. كل هذه الحقائق تدل على أن للسودان مع غيره مشتركات قوية، ولكن كذلك له داخل هذه المشتركات خصوصية.
بعض الناس ينظر إلى هذه الخصوصية في شكل سلبي، ولعل أهم النظريات التي سببت إحباطاً لكثيرين ما ذكره المفكر الكيني الأصل الدكتور علي مزروعي عن هامشية السودان المتعددة: أن السودان في هامش العالم العربي وهامش العالم الإسلامي وهامش أفريقيا. وهذا يأتي من ملاحظة علاقة السودان مع تلك «المراكز»، ما يمكن أن يفسر سلبياً بالهامشية المتعددة. ولكنه يمكن أن يعتبر كذلك مركز صهر أو لقاح لهويات يحقق تلاقيها وتلاقحها الوصال الثقافي المطلوب عبر القارة الأفريقية، في وقت لم يعد للأحادية الدينية والثقافية مكان حتى في القطر الواحد، وصار التبشير في كل الدنيا بأن المستقبل هو للأمة الهجين.
ويمكن أن نضيف إلى هذه الميزات السودانية أن استقلال السودان تحقق بصورة رائعة وسلسة، في الوقت الذي كانت بلاد أخرى تعاني من وجود عسكري بريطاني، وحتى التي استقلت ارتبطت بالكومنولث البريطاني. مثلما انضمت دول الاحتلال الفرنسي سابقاً إلى دائرة الفرنك بعد استقلالها.
كان استقلال السودان كامل الدسم، والميزة الثانية هي أن النظام السياسي الذي انتقلت إليه السلطة في السودان بعد جلاء الاحتلال كان ديموقراطياً معيارياً. أقول ديموقراطية معيارية قياساً على التجربة الغربية. التجربة الغربية طورت النظام الديموقراطي على مراحل بعد أن تأسس كيان الدولة، وبعد أن تضامنت شعوبها في كيان أمة، وبعد أن حققت درجة من النمو الاقتصادي، ودرجة من الوعي التعليمي. وتطبيق الديموقراطية المعيارية من دون مراعاة لهذه الممهدات قفز على المراحل. هذا لا يعني العدول عن الديموقراطية إلى أن تتحقق هذه التطورات المطلوبة ففي غيبة الديموقراطية يحجر الطغاة التطور السياسي ويبقى الشعب مسلوب الإرادة، ولكن المطلوب أن تصحب الممارسة الديموقراطية توازنات تخاطب التنوع الديني، وعلاقة الدين بالدولة وبالسياسة، وتخاطب التنوع الإثني، وتخاطب الفوارق الاجتماعية. توازنات تميز الممارسة الديموقراطية ألا تكون مجرد قرارات غالبية الأصوات.
زعزعة نظم الحكم السودانية
القوى السياسية التي برزت في السودان المستقل أربع:
- انقسم مؤتمر الخريجين العام حول المصير الوطني بين دعاة الاستقلال ودعاة الاتحاد مع مصر، الجماعة الاستقلالية تحالفت مع الأنصار، والجماعة الاتحادية تحالفت مع الختمية.
- منذ أربعينات القرن العشرين نشأت قوى جديدة ذات جذور سودانية وواردات من مصر. الفكر الشيوعي الوافد من مصر وجد في السودان حرية أكبر فتمدد حتى صار أكبر من أصوله المصرية. ونشأ توجه إسلامي بمرجعية «إخوانية» هو الآخر، مع اختلاف في التسمية عبر المراحل صار أكبر من أصوله في مصر.
استقل السودان منذ 58 عاماً، وحكمته أثناءها 6 نظم حكم:
3 ديموقراطيات أدارتها ائتلافات بين حزبي الاستقلاليين والاتحاديين، هذان حكما 14 في المئة من سنوات الاستقلال، ومع أنهما التزما الديموقراطية بمقاييسها المعيارية، فإنهما لم يخاطبا مسألة الهوية السودانية.
الوعي الثقافي الوطني في السودان افترض هوية عربية إسلامية للسودان، وقد عبرت عن هذا الانتقاء الثقافي مذكرة مؤتمر الخرجين العام في عام 1942، في المطالبة بتوحيد التعليم في البلاد، من دون مراعاة ما كان للجنوب من خصوصية ثقافية.
التركيز على أن هوية السودان الثقافية هي إسلامية عربية أجمعت عليه القوى السياسية الفاعلة في المرحلة الأولى من حكم البلاد المستقل، وهو نتيجة لرؤية السودانيين الأكثر تعليماً لأنفسهم، كما هو نتيجة لما يشدهم شمالاً وشرقاً وغرباً نحو العالم العربي والإسلامي.
ومن هذا المنطق نظروا إلى الهوية الجديدة التي غرسها الاحتلال في الجنوب، أي الهوية المسيحية الأنكلوفونية باعتبارها دخيلة ومرفوضة. والبريطانيون، منذ بسط إدارتهم على السودان، قدروا أن في السودان هويتين: شمال شرق أوسطية، وجنوب شرق أفريقية.
العهود الديموقراطية الثلاثة التي حكمت السودان لا يزيد عمر حكمها مجتمعة على 14 في المئة، بينما العهود الأوتوقراطية الثلاثة بلغ عهد حكمها مجتمعة اليوم 83 في المئة.
النظم الديموقراطية اتسمت بمشاركة للجنوبيين بحجم السكان في إدارة الحكم. ومع أنها كانت منحازة للهوية العربية الإسلامية، إلا أنها كانت تطبق توجهاتها بوسائل ناعمة وبحوار مستمر مع ممثلي القوى الجنوبية.
أما النظم الأوتوقراطية فإنها تصرفت بوسائل فوقية إلزامية، ما جعل كل حركات المقاومة المسلحة في البلاد تنطلق أثناء العهود الأوتوقراطية:
- التمرد الأول لم يبدأ في آب (أغسطس) 1955 كما يظن بعض الناس، ما حدث يومذاك كان عصياناً لأوامر عسكرية تبعته أعمال تلقائية عدائية للشماليين نتيجة لاحتقانات ولطريقة سياسة السودنة، كما أوضح تقرير القاضي قطران عن الأحداث، وانتهى العصيان تماماً بعد ذلك، وشاركت كل الأحزاب السياسية الجنوبية في برلمان الاستقلال وهدأت أحوال الجنوب تماماً. لكن السياسات التي اتبعها نظام الفريق إبراهيم عبود (1958 - 1964) تسببت في انطلاقة المقاومة المسلحة الأولى، إذ قرر النظام توحيد التعليم في وقت كان التعليم في الجنوب قد أسند منذ عهد الاحتلال إلى المبشرين، وكان يوم الإجازة الأسبوعي في الجنوب هو الأحد فألغت الحكومة الأحد، وقررت أن تكون الإجازة يوم الجمعة. الأحد عند المسيحيين كالسبت عند اليهود، مختلفين عن الجمعة عندنا، هما يعتبران يومين مقدسين لا يجوز العمل فيهما بينما نحن المسلمين نعمل يوم الجمعة باستثناء ساعة صلاة الجمعة. المبشرون المسيحيون عارضوا هذه الإجراءات فطردوا. وكان للجنوبيين وجودٌ في الحكومة والبرلمان والأحزاب ولكن جميع هؤلاء شردوا بعد انقلاب 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 1958 فانضموا إلى المطرودين من المبشرين في دول الجوار الأفريقي، وهناك كوّنوا حزب سانو لمقاومة النظام السوداني، وفي 1963 أطلق النظام السجناء العسكريين الذين اشتركوا في عصيان عام 1955، من دون أية محاولة لإعادتهم إلى العمل أو إلى أعمال مدنية. هؤلاء فروا إلى دول الجوار الأفريقي وصاروا نواة لحركة الأنانيا التي قادت التمرد الأول.
- الأوتوقراطية الثانية (1969 - 1985) استفادت من تحضيرات مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة الاثني عشر، ومؤتمر الأحزاب السودانية، أي من تحضيرات عهد الديموقراطية الثانية كما شهد بذلك محمد عمر بشير في كتابه «جنوب السودان من الحرب للسلام». استفاد النظام من تلك التحضيرات، ولأنه بعد محاولة انقلاب تموز (يوليو) 1971 بطش بالحزب الشيوعي، وجد تعاطفاً من إثيوبيا الإمبراطورية ومن الكنائس ومن الغرب، وأبرم اتفاقية أديس أبابا عام 1972. لكن النظام صار يتدخل في صلاحيات المجلس التنفيذي الأعلى في الجنوب، وبتشجيع جنوبيين من الاستوائية قسم الجنوب إلى ثلاث ولايات من دون مراعاة لنصوص اتفاقية 1972. هذه العوامل أدت إلى انطلاق حركة تمرد جديدة يقودها هذه المرة الجيش الشعبي لتحرير السودان، وكان النظام المايوي انحاز إلى المعسكر الغربي، ما دفع المعسكر الشرقي وحلفاءه الإقليميين وهم يومذاك إثيوبيا الماركسية، اليمن الجنوبي الماركسي وليبيا، وقد كانوا يمثلون حلف عدن المعادي للتكامل العسكري المصري السوداني، دفعهم إلى حرب أقوى وأوسع وأخطر من حرب أنانيا الأولى. هذا التمرد وجد مزيداً من الدعم الكنسي عندما أعلن النظام المايوي السوداني قوانين أيلول (سبتمبر) التي بموجبها أعلن تطبيق الأحكام الإسلامية في كل السودان في أيلول 1983.
- كاد نظام الديموقراطية الثالثة (1986 - 1989) أن يبرم اتفاقية سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، اتفق على وقف إطلاق النار، واتفق على شريان الحياة وهو نظام لتأمين الإغاثة الإنسانية للمدنيين في مناطق القتال، واتفق على عقد مؤتمر قومي دستوري في 18/9/1989. وكانت مطالب الحركة الشعبية لا تزيد عن: نصيب عادل في السلطة والثروة، واستثناء الجنوب من الأحكام الإسلامية، وإلغاء أية اتفاقيات مقيدة للسيادة الوطنية (اتفاقية الدفاع المشترك).
لم يكن في المطالب تقرير المصير، ولم يكن لأية جبهة أجنبية دخل في عملية السلام السودانية.
هذه الفرصة أضاعها وقوع انقلاب حزيران (يونيو) 1989.
هوية الإنقاذ
انقلاب «الإنقاذ» أخفى هويته في البداية بمجموعة من الحيل منها مقولة أمين الجبهة الإسلامية القومية لقائد الانقلاب: اذهب أنت إلى القصر رئيساً، وأذهب أنا إلى السجن حبيساً. ولكن بعد فترة من الوقت تكشفت الحقائق، ثم ظهرت جلية في تكوين المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي 1992.
كنتيجة مباشرة لهذا التوجه الذي صحبه وصف الحرب الأهلية ضد الجيش الشعبي بأنها حرب جهادية، دعا السيناتور الأميركي السابق هاري جونسون الأحزاب السياسية الجنوبية كافة إلى لقاء جامع في واشنطن في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 1993 ليبحثوا مستقبلهم في ضوء توجهات النظام الانقلابي الجديد في السودان. كان بعض هذه الأحزاب وحدوياً في علاقة الجنوب بالشمال، وكان بعضها لتحالفاته مع النظام الإثيوبي يؤكد أنه ينادي بسودان جديد موحد. لكنهم أجمعوا في اجتماع واشنطن على أنه: ما دام السودان أعلن أن هويته إسلامية عربية، ونحن لسنا مسلمين ولسنا عرباً، فهذا معناه أن نكون في السودان مواطنين من الدرجة الثانية وهذا ما نرفضه، لذلك نطالب بالإجماع بتقرير المصير.
كانت فكرة تقرير المصير تراود بعض الساسة الجنوبيين في الماضي لكن المناداة بها كانت محدودة. ومن تكتيكات ساسة الانقلاب الجديد أن مندوبهم د. علي الحاج اتفق عليها مع المنشقين على الحركة الشعبية في اتفاقية فرانكفورت عام 1991. كانت المرة الأولى التي تقبل فيها جهة سودانية مسؤولية فكرة تقرير المصير لجنوب السودان.
وبعد اجتماع الأحزاب الجنوبية في واشنطن حددت الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق مسارها وهو: العمل على إقامة سودان جديد علماني أفريقاني كهدف أول، فإن لم يتحقق فالهدف الثاني هو تقرير المصير لإقامة دولة جنوبية منفصلة.
توجه نظام السودان الانقلابي أتاح للحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق فرصاً جديدة هي:
- تحالف مع القوى السياسية السودانية التي أقصاها النظام الجديد.
- استقطاب عناصر شمالية غير عربية بحجة أنهم هم غالبية أهل السودان، تجاوباً مع رؤية الحركة الشعبية بأن التناقض في السودان ليس جهوياً بين شمال وجنوب، بل هو إثني بين عرب وأفارقة.
- انضمام سودانيين شماليين إلى الحركة الشعبية باعتبارها ضد «الإسلام السياسي» وتبشر بالعلمانية.
- جهر بعض دول أفريقيا جنوب الصحراء بالانحياز إلى الحركة الشعبية.
- مع أن الحركة الشعبية كانت ماركسية التوجه في تحالفها مع إثيوبيا الماركسية، فإن هذا التوجه توارى بعد سقوط نظام منغستو في إثيوبيا، وحل محله دعم كنسي واسع للحركة لحماية المسيحيين من «البطش الإسلامي».
هذه العوامل دعمت موقف الحركة الشعبية بصورة غير محدودة حتى قال لي د. جون قرنق مازحاً: «إن نظام الإنقاذ بسياساته وتوجهاته قد خدم قضيتنا، ويستحق قادة هذا النظام أن نقيم لهم تماثيل في جوبا فقد جلبوا لنا دعماً معنوياً وسياسياً ومادياً ما كنا لنحلم بمثله».
«الإنقاذ» يخدم الجنوبيين
النظم السودانية قبل انقلاب الإنقاذ كانت كما ذكرت تعتبر هوية السودان إسلامية عربية، ولكن نظام الإنقاذ عبر عن هذه الهوية بصورة منهجية حادة أفرزت الاستقطاب الحاد المضاد وهو المناداة بهوية علمانية أفريقانية.
كان لتوجهات النظام الجديد الأثر الأكبر في تطوير موقف الحركة الشعبية في الاتجاه المضاد، وإجماع القوى السياسية الجنوبية على المطالبة بتقرير المصير. واستطاعت الحركة الشعبية أن تستقطب عناصر شمالية مسلمة على أساس انحياز النظام إلى الهوية العربية. هنالك في الأصل تباين إثني في بعض مناطق السودان غير الجنوب، أي في جنوب كردفان، وفي جنوب النيل الأزرق، وفي دارفور. عناصر كثيرة في هذه المناطق تحلقت حول الحركة الشعبية على أساس هذا التباين الإثني، بل تمدد الشعار وتلقفه كثيرون حتى في الشمال والشرق، خصوصاً من مثقفي النوبة والبجا الذين ظلوا ينادون بخصوصيتهم الثقافية وحقهم في حماية لغاتهم وثقافتهم من الاندثار، من دون أن يجدوا الرعاية والالتفات بسبب سوء إدارة التنوع الذي أشرنا إليه.
النتيجة: أن حروب السودان الحالية تكمن وراءها عوامل، أهمها عاملان: مسألة الهوية ومسألة الحد الأدنى من التنمية والخدمات الاجتماعية.
قلنا إن حركة آب 1955، لم تكن تمرداً بالمعنى الصحيح للعبارة، بل كانت عصياناً لأوامر عسكرية بنقل قوات جنوبية من توريت إلى الخرطوم.
والحقيقة هي أن كل حركات العمل المسلح ضد الحكومة المركزية، كانت أثناء نظم الحكم العسكرية:
- 1963 تمرد حركة أنانيا الأولى.
- 1976 الانتفاضة الشعبية المسلحة.
- 1983 تمرد الحركة الشعبية.
- 2002 تمرد حركة تحرير السودان (دارفور).
- 2002 تمرد حركة العدل والمساواة (دارفور).
- 2003 جبهة شرق السودان.
- 2011 جبهة جنوب كردفان.
- 2011 جبهة النيل الأزرق.
هذه الحركات مرتبطة بمظالم متعلقة بالهوية، والنظم الديكتاتورية، وهي تفرض إرادة أحادية بالقوة وتخلق ردود فعل مسلحة مضادة.
الانقلاب العسكري عندما تتوافر ظروف التآمر سهل، لأن الذين يقومون به هم حراس النظام المفترضون ويستطيعون إطاحة السلطة باحتلال مفاتيحها، لكنه عمل جرّمه الشيخ الألباني وحرمه باعتباره ضد منهج الإسلام، ومن شأنه أن يقفل مجالات الرأي الآخر والمعارضة المدنية، ما يضطر أصحاب الرأي الآخر والموقف المعارض إلى حمل السلاح، لذلك تنشأ في وجه السلطة العسكرية حتماً حركات تمرد مسلح.
وقد لازم النظام السياسي السوداني الفشل في التعرف والاستيعاب الكافي لحقيقة التعدد الثقافي من ناحية، والتأخر في التعرف إلى الهجنة الثقافية على مستوى الثقافات المختلفة وبدرجات مختلفة من ناحية أخرى.
والواقع أن الوعي القومي السوداني في نشأته الباكرة في النصف الأول من القرن العشرين، قام على هوية عربية إسلامية وثيقة الصلة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما في مركزها الثقافي الأقوى - مصر - وافترض أن كل الهويات الثقافية السودانية الأخرى سيتم هضمها لا محالة وإذابتها في هذه الهوية.
إن تقويم مداولات الهوية منذ مطلع القرن العشرين، مروراً بمساجلات عشرينات القرن وثلاثيناته بل حتى ستيناته، يدل على غياب شبه كامل للوعي بالتنوع بين الشريحة السودانية المثقفة. والكلام عن الهوية كان يعنى بثقافة المركز، وإن تم الاختلاف في تحديد هوية المركز نفسها، بين من يرونها عربية إسلامية محضة، ومن يقطعون بهجنتها العربية - الأفريقية.
برز الوعي بالتنوع إثر الاستقلال. وكان لدى الجماعات صاحبة الثقافات المغايرة لثقافة الوسط المهيمنة، ولحدة تلك المغايرة بين الشمال والجنوب فقد أثمرت حرباً أهلية ضارية اشتعلت في الجنوب واتقدت طويلاً، حتى انتهت مع مفاقمة نكء جرح الهوية على يدي «الإنقاذ» إلى الانفصال. وبرز الوعي بالتنوع كذلك لدى حركات واعية بالمظالم السياسية والتنموية والثقافية لمناطقها مثل مؤتمر البجا وجبهة نهضة دارفور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.