وزير الصناعة يدعو الشركات الأميركية للاستثمار في صناعات الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية بالمملكة    القبض على 9 مخالفين في جازان لتهريبهم (198) كجم "قات"    النيابة العامة تطلق حملة «الطفل أولوية»    تشكيل الأهلي المتوقع أمام القادسية    مذكرة تفاهم بين معهد الإدارة وجامعة كاليفورنيا - بيركلي    المياه الوطنية توقّع اتفاقيتين خلال مشاركتها في معرض سيتي سكيب 2025    الجيش اللبناني يعلن اعتقال نوح زعيتر أخطر تاجر مخدرات في لبنان    الأخضر يُعلن قائمته لكأس العرب    المملكة تدين هجوم إسرائيل العدواني على غزة وخان يونس وتعديها على سيادة أراضي سوريا    مدرب الهلال يعقد مؤتمراً صحفياً غداً    NHC توقّع اتفاقية لتنفيذ وحدات سكنية لمشروع "بوابة رسن" في وجهة بوابة مكة    تركي آل الشيخ يلتقي الشيخ منصور بن زايد في أبوظبي    "8" فعاليات مصاحبة تخاطب زوار كأس نادي الصقور السعودي 2025 بالظهران    الدور الملهم للأمير محمد بن سلمان في تحقيق السلام في السودان    الأنصاري: 87% من خريجي جامعة محمد بن فهد يلتحقون بسوق العمل    رفاد وهيلتون توقّعان اتفاقية لإطلاق فندق «كونراد» ضمن مشروع «مركان كوارتر» في الخبر        الفتح يكثّف تحضيراته قبل موقعة الهلال وسط موجة إصابات تضرب صفوفه    نائب أمير حائل يستقبل د.عبدالعزيز الفيصل ود.محمد الفيصل ويتسلم إهدائين من إصداراتهما    التخصصي و"عِلمي" يوقعان مذكرة تعاون لتعزيز التعليم والابتكار العلمي    العوالي توقع اتفاقية مع سدكو لإنشاء صندوق عقاري بمليار ريال    هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنظم لقاء بعنوان (تحديات الأمن الوطني)    أمير تبوك يرفع التهنئة للقيادة بمناسبة نجاح الزيارة التاريخية لسمو ولي العهد للولايات المتحدة الأمريكية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصل العام لجمهورية الصومال    القادسية ينظم دورة "الذكاء الاصطناعي في الإعلام الرياضي" بالشراكة مع هيئة الصحفيين السعوديين    أمير تبوك يكرم شقيقين لأمانتهم ويقدم لهم مكافأة مجزية    مُحافظ الطائف يلتقي مُديرة التطوير والشراكات بجمعية الثقافة والفنون    الأمير سعود بن نهار يشهد شراكة بين تجمُّع الطائف الصحي وجمعية "روماتيزم"    زيلينسكي يبحث في تركيا فرص السلام.. واشنطن تقود مساراً تفاوضياً جديداً لإنهاء حرب أوكرانيا    ثمن جهودهم خلال فترة عملهم.. وزير الداخلية: المتقاعدون عززوا أمن الوطن وسلامة المواطنين والمقيمين    الجوازات تستقبل المسافرين عبر مطار البحر الأحمر    تعمل عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.. درون وروبوت لمكافحة الحرائق بالمباني الشاهقة    إبراهيم إلى القفص الذهبي    محافظ جدة وأمراء يواسون أسرة بن لادن في فقيدتهم    انطلاق النسخة ال9 من منتدى مسك.. البدر: تحويل أفكار الشباب إلى مبادرات واقعية    تامر حسني يكشف تفاصيل أزمته الصحية    مهرجان الديودراما المسرحي يحتفي بالثنائية الفنية    «وسم الثقافي» يكرم المعيبد    ترخيص فوري للبيع على الخارطة    وسط غموض ما بعد الحرب.. مشروع قرار يضغط على إيران للامتثال النووي    الاتحاد الأوروبي يدعو لوقف القتال.. السودان.. معارك متصاعدة في كردفان    دراسة: دواء السكري يقلل فوائد التمارين    «فنون العلا 5» ينطلق في تنوع فني وتجارب أدائية غامرة    «بيئة مكة».. جولات رقابية على الخضار والأسماك    14 ألف جولة رقابية على المساجد بالشمالية    فيصل بن مشعل يتسلّم تقرير لجنة الحج الفرعية    أمير الرياض يستقبل سفير المملكة المتحدة    "منبهر" يحقق كأس الحفل الثالث    «جامعة سطام» تطلق «خيمة ثقافات الشعوب»    «الجوف الصحي» يقدّم الفحوصات الدورية المتنقلة    لماذا يبدع ضعيف الذاكرة؟!    "سورات وميرونك" يتصدّران افتتاح بطولة السعودية الدولية 2025 للجولف    من تشجع في مباراة الفضاء؟    120 ألف شخص حالة غياب عن الوعي    وزير الرياضة: رؤية 2030 أحدثت تحولًا جذريًا ورفعت عدد الاتحادات إلى 97 اتحادًا    عبء العلاقات الاجتماعية ثقل يتزايد بصمت    حسن الظن بالله أساس الطمأنينة    استقبل وزير الحج ونائبه.. المفتي: القيادة حريصة على تيسير النسك لقاصدي الحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدخول إلى بغداد كما الخروج منها: عواصف رمال وفساد وخشونة
نشر في الحياة يوم 28 - 06 - 2011

لا يحتاج المتمعن في صورة بغداد اليوم، وبالذات عند من عرفها في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، لكثير جهد كي يتيقن من أن الملامح المدنية للعاصمة العراقية التي كانت أحد أبرز حواضر المنطقة حتى خمسين عاماً خلت، تراجعت على نحو مريع: فوضى عارمة في كل شيء، فوضى في استخدام الطرق العامة، فوضى في السلوك الإنساني وفظاظة بائنة، فوضى في الأبنية والعمران، فوضى في عرض المنتجات للمستهلك، فوضى في السياسة والاقتصاد والتربية والتعليم، فوضى في التعبير عن الرأي، وفي الدين والمعتقدات، بل فوضى حتى في الفساد: الصورة الأكثر تجلياً في البلاد اليوم. فالصورة الواقعية تكشف أن الفساد لم يعد حكومياً وحسب، بل تحول ثقافة اجتماعية بامتياز، الى حد أن شخصاً تشي مكانته بالاحترام يتحدث بإعجاب عن شخص يعرفه وعمل في الحكومة نحو سنتين واشترى شقة وسيارة فخمة، أي أنه كان يثني على «شطارة» فاسد، والغريب أن هذا الرجل الذي يثني على «من نجح بسرعة في تدبير أموره»، من دون السؤال كيف، هو مدرّس مخضرم، ثم مفتش تربوي تخرجت على يديه أجيال!
كلها تلك، ملامح تشكل نقيضاً للمدنية، وبغداد اليوم أكبر احتفال مناهض للمدنية، الملاك الموسورون الذين أفرزتهم سنوات ما بعد عام 2003 يهدمون أبنية قديمة، لتنهض بدلاً منها عمارة قبيحة المنظر، معدنية بألوان مبهرجة فاقعة، تجار المدينة يربحون (الربح حق لهم)، لكنهم لا يربحون بشراهة فقط، بل يقذفون بنفايات تجارتهم في قلب شارع الرشيد، الى حد أن أكوام القمامة ترتفع أمتاراً وسط شارع كان الى حين يختزل مدينة، عبر قول «مدينة في شارع».
الغبار على كل شيء، غبار العواصف الرملية شبه اليومية الهابة على بغداد، وغبار السلوك الخشن لسكان المدينة الذين ما خبروا من عافيتها المدنية والإنسانية شيئاً، وقد يكون غياب اللطف في سلوكهم أمراً طبيعياً منسجماً مع خشونة عيشهم وشظفه لنحو أربعة عقود من حروب نظام صدام وحصاراته ثم الحرب الأخيرة ومنتجها الأبرز والأفظع: الحرب الطائفية. غبار الشعارات السياسية والطائفية شاهد على نوعية الزمن الحاضر: جداريات الديكتاتور المبتذلة الرسوم طليت فوقها لوحات جديدة لرجال سلطة اليوم ورموزها وبرسوم لا تقل عن سابقتها ابتذالاً، بل ربما من كان يرسم للديكتاتور هو ذاته من يجسد ملامح سادة السلطة الآن.
أيضاً هناك غبار الكذب المنهمر على الناس، غبار تحسين أحوالهم، وغبار أنهم سيبنون «العراق الجديد» فيما غالبية الحكام اليوم يسكنون في قصور صاحب «العراق القديم» ويسلكون الطرق السريعة التي بناها، لا بل إنهم يسيرون على هدى نهجه في الاستيلاء والسيطرة و «التبعيث» أيضاً، حين يبادلون الولاء بالتعيين الوظيفي والصفقات المربحة، فاليوم يبدو أضمن الطرق الى الظفر بوظيفة حكومية (مجال العمل الحقيقي المتاح في البلاد) هو الانتماء الى «حزب قوي» أو بتزكية منه، وبالطبع أن لا أقوى اليوم من الأحزاب والتيارات المتنفذة في السلطة. أما أقصر الطرق الى الظفر بعقد مربح فهو أن يشاركك رجل دين مؤثر على أركان الحكم أو شيخ عشيرة كبيرة، والاثنان لهما أكثر من عصا سحرية في تغليب كفة العقود التجارية الضخمة المضمونة الربح.
الطريق من مطار بغداد وإليه
يبدو الطريق من مطار بغداد الدولي وإليه اختصاراً لفوضى العراق اليوم (تحديداً القسم العربي منه ذلك أن إقليم كردستان شبه المستقل يعيش ظرفاً مختلفاً بالكامل) وقلقه الأمني، فما أن تصل الى المطار، حتى تبدأ مفارقات تتوقع أن تكون البلاد تجاوزتها انطلاقاً من فكرة أن النظام السياسي «الجديد» بات نظاماً ديموقراطياً ويؤمن بالمكاشفة والانفتاح الفكري والإنساني. فمسؤول الجوازات يسأل إذا كنت دخلت بلادك وبجوازها لأول مرة، وفي حين تجيب بنعم، فهو على الفور يستدعي مسؤولاً أكبر، ليقوم هذا الأخير بتفحص الجواز وأسمك وصورتك وينظر نحوك، بالمقابل تعتبر هذا أمراً طبيعياً لا سيما أن البلاد تعيش أوضاعاً أمنية صعبة وتحديات كثيرة، لا بل إنك مع حرصك على سلامة البلاد وأهلها تبارك للمفتش إجراءاته، لا سيما أنها تأتي من باب ضمان دقة المعلومات وسلامتها، لكن مثل هذا الأمر سيتحول لاحقاً الى أسئلة تورد أسئلة أخرى، وكثيراً ما تظل من دون إجابات.
ونظل في المطار، ففي قاعة وصول المسافرين التي لطالما عرفت وشاعت عبر صورها الملتقطة بكاميرات جنود أميركيين، وما أن تخرج كاميرتك الشخصية لتصوب عدستها نحو عمق القاعة المضيء، يهرع نحوك أحد موظفي الأمن الشبان صائحاً: «ممنوع... ممنوع»، وإذ تتعجب لمثل هذا الأمر، تضطر لتطبيقه، وبعد خروجك من القاعة في انتظار السيارة التي ستقلك الى مركز مدينة بغداد، تواجه بالعاصفة الترابية التي تخنق كل شيء، وإذ تتكرر محاولتك في تصوير المطار الغارق في غبار العاصفة، يخرج موظف أمن آخر، ليصيح: «ماذا تفعل... ممنوع التصوير»، وتعيد الكاميرا مرة أخرى الى الحقيبة انطلاقاً من رغبتك بأن يظل مدخلك الى بغداد هادئاً وسلساً.
وفي حين تسارع السيارة التي تقلك باتجاه مركز مدينة بغداد، وتحديداً إذا كنت وصلت وثمة جماعة مرافقة لمسؤول حكومي بانتظارك، فإن السائق يتجنب الوقوف عند السيارات المتجمعة عند نقاط السيطرة، إذ يظهر هوية تجنبه ذلك فهو من جهة حكومية بارزة، أي أن المعاناة التي يتحملها المواطن العادي في وقوفه الكثير عند تلك النقاط لا يعرفها المسؤول الحكومي فهو له الحق «القانوني» في تجاوز التفتيش، وهو أول مؤشرات للفجوة بين ما يعيشه المواطن وما يعيشه المسؤول الحكومي.
في المرات اللاحقة تتأكد من أن نقاط التفتيش لا تؤدي واجباً حقيقياً، فلا تفتيش جدياً فيها ولا إجراءات حقيقية، فالسائق الذي يقلك وبعد إلحاحك عليه بتتبع الطرق العادية في الاقتراب من الحواجز الأمنية، كان يحمل سلاحاً لكن لم تكتشفه ولا مرة واحدة أجهزة الكشف عن السلاح والمتفجرات التي يحملها الجنود وكلفت خزينة الدولة العراقية أموالاً طائلة.
أما طريق الوصول من مركز المدينة الى المطار قبيل المغادرة فهو أشبه ما يكون بفصل في احتقار الإنسان، فعليك التوقف ما قبل المطار نحو خمس مرات للتفتيش، ثلاث منها تكون بإنزال حقائبك للتفتيش، وخمس أخرى تضيق معها ذرعاً بما تحمل إذ عليك حمله ودفعه نحو أجهزة التفتيش، وتتم ما إن تدخل المطار حتى صعودك الى الطائرة، لكن المفاجأة هي أن نظراتك بحثاً عن شخص يشاركك الإحساس بالضيق من هذه الإجراءات التي لا معنى لتكرارها بهذه الطريقة المزعجة، تظل حائرة إذ لا تجد من يشاركك إحساسك بالجزع، والجميع يمضي نحو نقاط التفتيش العشرة بهدوء وطواعية.
هذا المؤشر يقودك الى فهم «طبيعة عراقية» باتت اليوم ملازمة لإنسان بلاد الرافدين العادي، فهو يتكيف بسرعة مع الأوضاع غير العادية ويتعاطى معها لاحقاً في شكل طبيعي، طالما عليه أن يتهيأ لأخرى مفاجئة دائماً أبرزها حوادث العنف شبه اليومية، فلا أحد يشعر بالضيق من حواجز الكونكريت الضخمة التي تسيج الأحياء السكنية، وتجعل من بغداد «جزراً طائفية معزولة»، وحين تجد مواطنين سلسين جداً في تطبيق إجراءات الدخول يومياً الى أحيائهم السكنية، لا يبدو غريباً أن تجدهم يطبقون طائعين إجراءات تفتيش مذلّة من مركز بغداد الى المطار، فهي على الأقل ستطبق لمرة واحدة مقترنة بسفر طارئ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.