تتكئ المخرجة الجزائرية الشابة ياسمين الشويخ في منجزها السينمائي على قضايا أنثوية صرفة، فمنذ فيلم «الباب» وصولاً إلى فيلمها الجديد «الجن» سنعيش هذا الانحياز معها، وكأن الشويخ قد حسمت أمرها بهذا الخصوص، من دون أن تبدي تردداً قد يغير من هذا الاختيار. في فيلم «الباب» سوف يتعين على سامية أن تلحق بذلك الضوء الذي يلوح لها للوصول إلى المخرج. ولكن دائماً سيكون هناك عائق يتمثل بأحد أفراد العائلة الذي يطالبها بتقديم خدمة له بوصفها الأنثى، حبيسة الجدران والأفكار والتقاليد البالية. في فيلم «الجن» سوف نلتقي بالفتاة الصحراوية عنبر، وهي حبيسة من نوع آخر. صحيح أنها تعيش في صحراء ممتدة ووسيعة، ولكنها ها هنا هي حبيسة تقاليد القبيلة وأوهامها عن الجن، وهي أوهام مستمدة من الأسلاف، وتستمر بالانتقال عبر حكم سيدة القبيلة العجوز التي تقرر كل شيء يخص النساء، وهي بذلك تحفظ مكانتها وسطوتها. وما إن تبلغ عنبر حتى تقع عملياً تحت سطوة هذه السيدة المتسلطة والمتحكمة بشؤون القبيلة حفاظاً على الموروث. ضحكة لن يقف الأمر عند هذا الحد، فالقبر المفتوح، رمز هذا الموروث هو تهديد فعلي لكل من تحاول الخروج عن طاعة العجوز، فسوف تلتقي عنبر، بفتاة أخرى من قبيلتها، شاءت الأقدار أن تسعى نحو حريتها بالخروج الكلي عن هذه الشعوذة المستمرة عبر السنين، وسيكون لتمردها تأثير كبير على عنبر. للفتاة ضحكة عذبة ستكون بمثابة الضوء الذي يقود عنبر نحو تحررها من هذه الأوهام المتمثلة بالقبر. فالجن بوسعه أن يسكن كل فتاة في القبيلة التي تعجبه، إن لم يحظ بالقربان الموعود. الأب الطيب المغلوب على أمره يفشل في تربية ابنته بحسب زعيمة القبيلة بعد وفاة زوجته، فهو يظل مشغولاً بآلة التدنيت الموسيقية، وهي تمثل شغفه وحياته، حتى أنه يسلم بملكية القبيلة لابنته المراهقة. هي حرية من نوع آخر، ربما يجد موازياً له بحبه لابنته عنبر، وقد أطلق عليها هذا الاسم بسبب وحمة ظهرت على قدمها حين ولادتها. بلوغ عنبر سيشكل خوفاً للأب، لأن ابنته ستكون معرضة لقيام الجن وقعوده فيها. هذا ما يدفع بالأب بتذلل واستسلام كاملين لرجاء جن الماء للابتعاد عنها. عنبر من جهتها لا تستسلم لغضب القبيلة وسخطها عليها، فهي تبحث عن الجن، ليس بقصد التصالح معه أو مساكنته، بل بهدف كشفه وتعريته، وما إن تلحق به، حتى تكتشف الفتاة التي خرجت عن التقاليد، وعرضت «أوهام الأسلاف للخطر»، وكأنها بذلك تقود عنبر نحو حريتها وتحررها من لحظات غاشمة بدأت تعيشها في اللحظة التي وصلت فيها سن البلوغ. تدفع الفتاة حياتها ثمناً لحريتها الموقتة، ولكن ضحكتها التي تعودت عنبر عليها لا تموت. تدفن الفتاة في قبر الأسلاف، وعنبر التي تغادر طقس الدفن دامعة تسمع ضحكتها في داخلها، وهذا ما يدفع بها للابتسام، لأنها أدركت أن حريتها هي أيضاً سبيلها الوحيد للاستمرار بالعيش، وإن كان السبيل إلى ذلك هو الموت. ما يميز «الجن» عموماً، هو التصوير البارع في منطقة التاغيت القبائلية. الرياح التي تذرو حبيبات الرمال الذهبية، كأنها تنذر بمسح درامي متقدم لقصة الفيلم، من دون أن تكشف الشويخ عن الأحداث، وبقايا القصور المهدمة تسمح بتكوينات بصرية مدهشة، حتى أن رجوع الشويخ لاستخدام تلك الرمال الذهبية التي تبدو هنا، وكأن البشر يطأونها للمرة الأولى، يسمح بانكسارات تلعب دوراً في تعظيم الحالة الدرامية لسكان الصحراء الذين يعيشون حياتهم على هدي الأسلاف الكبار، فيما الجن يقرر مصائرهم من دون هوادة. بلوغ عنبر لا يعني مسألة فيزيولوجية بحتة، هنا تأخذ الأمور منحى سينمائياً تقرره كاميرا المخرجة الشابة بوصفه نقطة البداية في مشوار انعتاقها الذي يمثله هذا «البلوغ العقلي». انعتاق تميل ياسمين الشويخ في فيلمها، وقد شارك في قسم الأفلام القصيرة في الدورة الماضية من مهرجان «كان»، وفي الدورة الثامنة من مهرجان الفيلم القصير في مدينة طنجة المغربية إلى التأكيد على حجم المشروع الذي يمثله لها، على رغم قصره (20 دقيقة)، إلا أنه يحمل، كما فيلمها السابق «الباب» بذور هذا الانعتاق الذي تبحث عنه المرأة الجزائرية، فكما حالة سامية، كذلك في حالة عنبر. كلا الصبيتين يلحقن بضوء خفي لا حدود ولا مسميات له، اذ يكفي الاستسلام الغامض له حتى تبدأ كل واحدة مشوار الانفلات من سجنها، وهذا الضوء الصعب يمثل في شكل من الأشكال البوصلة الموصلة نحو هذا الانعتاق. لا يبدو أن الطريق نحوه سهل، هو مهدد بالزوال، كما المعيقات التي تصد سامية من بلوغ الباب لمعانقة الضوء القصي، كذلك هي حال الضحكة التي يمثلها خروج الفتاة في «الجن» من معقل الموروث المستحيل. الرمل الذي يتكسر وتذروه الرياح يهدد عنبر كذلك بالامحاء، ولكن الضحكة التي ترن بداخلها تصد عنها عناء غياب تلك الفتاة – المثال، ما يدفع بها للرقص في المشاهد الأخيرة على وقع أغنية شعبية جزائرية، وكأن شيئاً من هذا لم يحدث. وكأن الفتاة لم تمت.