يحل الظلام قبل موعده هذه الأيام في بلدة القيارة التي فر منها مسلحو «داعش»، قبل نحو أسبوع، بعدما أشعلوا النار في الكثير من آبار النفط في المنطقة. ويحجب الدخان المتصاعد في الهواء ضوء الشمس قبل حلول الظلام بساعات، في مشهد مروع في هذا المكان الصحراوي الذي لا توجد فيه كهرباء، وسط حرارة تبلغ 49 درجة مئوية. وتمثل استعادة الجيش القيارة، بالإضافة إلى قاعدة جوية قريبة، أحدث وأهم تقدم في حملته لاستعادة الموصل، أكبر مدينة خاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي على الإطلاق في الأراضي التي يقيم عليها «دولة الخلافة». وتريد بغداد استعادة المدينة قبل نهاية العام، مؤكدة أن استردادها سينهي وجود الإرهابيين، بعد مرور أكثر من عامين على استيلائهم على ثلث أراضي العراق. ويرى بعض المسؤولين من دول أعضاء في التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة أن هذا الجدول الزمني مفرط في الطموح. لكن من المؤكد أن خسارة القيارة وجهت ضربة إلى «داعش» الذي كان يستخرج النفط من 60 بئراً ويبيعه لتمويل أنشطته. وكان التنظيم يرسل حمولة 50 شاحنة على الأقل يومياً من حقل القيارة وحقل النجمة القريب من سورية المجاورة. وما زالت هناك لافتة على الطريق الرئيسي تعلن أسعار الخام في أماكن، مثل مدينة حلب على بعد 550 كيلومتراً غرب القيارة. ووحدات تكرير النفط البدائية التي كانت تستخدم في التكرير للاستخدام المحلي مهجورة على الطريق المؤدي إلى خارج البلدة باتجاه الشرق. وتغمر رائحة البترول المكان، أما الرياح المحملة دخاناً من حرائق الآبار فتهبّ على وسط البلدة. إن قضاء دقائق معدودة في المنطقة كفيل بإصابتك بحرقة في الحلق وأنت تسمع سعال الأطفال الذين يسيرون في الشوارع. عبدالعزيز صالح (25 عاماً) وهو من سكان القيارة قال إنه يريد من بغداد إخماد الحرائق في أقرب وقت ممكن. وأضاف «إنهم يخنقوننا... الطيور والحيوانات سوداء. الناس سود». وأكد، هو وسكان آخرون، أن النفط تسرب إلى نهر دجلة القريب، لكن وزارة النفط أعلنت أنه تم احتواء التسريبات باستخدام الخنادق. وفي حين شوهدت جثث طافية في النهر أمس، لم يتسن التأكد مما إذا كان النفط لوث مياهه. وأكدت السلطات إخماد حرائق في أربع آبار في منطقة القيارة. وأمكنت رؤية أكثر من عشرة أعمدة منفصلة من الدخان في الأفق مع حلول الظلام، حين اقتربت قافلة عربات الإطفاء من البلدة. ولم تتضح على الفور المدة التي ستحتاجها لإخماد ألسنة اللهب. فحين أشعل الجيش العراقي النار في مئات الآبار النفطية الكويتية عام 1991 قبل تقدم القوات التي قادتها الولاياتالمتحدة، استمرت غالبية الحرائق لنحو شهرين، لكن بعض الآبار ظلت مشتعلة لعام تقريباً. وأعلنت وزارة النفط أنها لا تتوقع استئناف الإنتاج قبل استعادة الموصل. وكان الحقلان الرئيسيان وهما القيارة والنجمة ينتجان 30 ألف برميل يومياً، قبل أن يسيطر عليهما «داعش». وعلى رغم حرائق الآبار، ما زالت القيارة مكتظة بالسكان. ففي حين فر المدنيون في أغلب المناطق الأخرى التي تمت استعادتها من الإرهابيين قبل أو أثناء الهجمات الحكومية، بقي سكان القيارة البالغ عددهم نحو 20 ألف نسمة في ديارهم. وقال ضابط في مكافحة الإرهاب إن ذلك يرجع جزئياً إلى السرعة التي استعاد بها الجيش المدينة إذ فاجأ الإرهابيين. وتقع القيارة كذلك قرب قاعدة جوية عسكرية، لذلك فالعديد من السكان لهم أقارب من أفراد الجيش. ومع انقطاع التيار الكهربائي وتبدد الخوف من العقاب في ظل النظام الصارم الذي فرضه التنظيم، خرج السكان إلى الشوارع الاثنين ملوحين لمركبات الجيش التي سلمتهم إمدادات أساسية مثل زيت الطعام والسكر والأغذية المعلبة. ورفع الأطفال أياديهم بعلامة السلام ولعب بعضهم وسط برك النفط المتسرب في الشوارع الرئيسية، بعدما فجر الإرهابيون الأنابيب والآبار قرب مستشفى رئيسي. والقادة على ثقة من أنه يمكن استعادة التيار قريباً وقالوا أن المباني والشوارع الملغومة لا تمثل خطراً كبيراً، بالمقارنة بما كانت عليه الحال في مدينتي الرمادي والفلوجة، غرب البلاد. وقال الضابط من جهاز مكافحة الإرهاب الذي قاد عملية القيارة إلى جانب الفرقة المدرعة التاسعة من الجيش: «حاصرناهم بسرعة، فلم يكن لديهم الوقت الكافي لزرع الكثير من العبوات الناسفة». وأضاف «كان هناك الكثير منها في الشارع الرئيسي الذي تصوروا أننا سنسلكه لكننا دخلنا من الصحراء». ومع الاقتراب من المدينة تظهر آثار القتال، فقد انهار العديد من المباني نتيجة القصف الجوي. وأعلن التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة أنه شن أكثر من 500 غارة لدعم القوات العراقية وهو ما يقرب من عدد الضربات في معركة العام الماضي لاستعادة الرمادي. وستشكل القيارة وقاعدتها الجوية، حيث ستتمركز قوات أميركية قوامها 560 عسكرياً، منطلقاً للهجوم المرتقب لاستعادة الموصل التي تبعد 60 كيلومتراً إلى الشمال.