العصبيات تتحكم بالحياة السياسية في لبنان. عصبيات عائلية. عصبيات عشائرية. عصبيات مذهبية. عصبيات طائفية. لا وجود للاجتماع في هذا البلد إلا بالانتماء إلى عصبية تجعل الإنسان الفرد مجرد أداة لتحقيق «وجود» المذهب أو الطائفة، بعيداً من مصلحته الفردية أو وضعه الطبقي. وجاءت التشريعات اللبنانية لتكرس هذه العصبيات التي تنهش الدولة. تتقاتل على المناصب كلما اختل التوازن الديموغرافي لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، فيلجأ الضعيف أو المستضعف إلى امتداداته الخارجية. ينسج «تحالفات» إقليمية أو دولية للاستقواء بها على خصمه. وربما كان هذا ما يفسر أفول الأحزاب العلمانية والديموقراطية والتحاقها بالعصبيات الطائفية. التاريخ اللبناني مليء بالأمثلة، أقربها إلينا ما حصل ويحصل منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري حتى اليوم. هذا الواقع أوصل الحريري إلى منصبه، وحوّله بعد الاغتيال إلى زعيم طائفة، وأصبح بعد اغتياله حكراً على هذه الطائفة وتحالفاتها الداخلية والخارجية. وهذا ما يجعل السيد حسن نصرالله، بعمامته السوداء، زعيماً لمقاومة شيعية لها امتداداتها العربية والإقليمية. ويجعل جنوب لبنان كأنه عدو لكل المناطق الأخرى، لأن تحريره ومواجهة إسرائيل كانا على يد هذه المقاومة التي نغصت على الآخرين هناءة عيشهم. ولأن كل مؤسسات الدولة قائم على هذا الأساس، نجد زعماء الطوائف وأولادهم وأحفادهم يتوارثون المناصب ويتحولون إلى رموز، تنسج حول بطولاتهم أساطير، ويحاطون بهالة قدسية. ويتأبدون في قيادة العمل السياسي، مقاومين أي تغيير، ولو اضطرهم ذلك إلى المطالبة بالتقسيم أو الفيديرالية، بحجج منها الاختلاف الثقافي والحضاري، والانتماء إلى الغرب مقابل الانتماء إلى العرب. كانت لافتة جداً الحملة على القضاء اللبناني الذي اعتقل الضباط الأربعة بتهمة اغتيال الحريري، ثم أخلى القضاء الدولي سبيلهم، مقرراً أنهم غير متهمين وغير مشتبه بهم في العملية. كانت الحملة لافتة، وبعضها محق، ليس لأن مطلقيها غير طائفيين وغير منحازين ويريدون إصلاح القضاء، بل لأن التقسيم المذهبي والطائفي يطاول هذا الجهاز ويجعله غير مستقل، وهذه مخالفة دستورية لمبدأ فصل السلطات. يقول رئيس مجلس القضاء السابق انطوان خير إن الجرائم التي حصلت، قبل اغتيال الحريري، «تمت بشكل عام، وسط جو معين معروف، وفي معظمها (معظم الحالات) لم يكن أحد يشدد على إجراء تحقيق فيها، بل كان من المفضل نسيانها». ويعترف الرئيس السابق بفشله في تحقيق استقلال القضاء لأن «المناخ العام لا يشجع كثيراً، فمن جهة هناك رجال السياسة الذين لا يستسيغون كثيراً استقلال القضاء، ومن جهة ثانية هناك بعض القضاة هم أنفسهم لا يعرفون أن يكونوا مستقلين». ويرسم خير صورة بائسة للقضاء اللبناني فيتابع أن المشكلة لم تكن يوماً مشكلة كفاءة، بل مشكلة الأجواء السياسية: «بعض القضاة ليس لديه شعور بأن عليه مسؤولية. يفضل أن يكون تابعاً لجهة سياسية معينة لأنه بذلك يؤمّن تقدمه الوظيفي أكثر». نستطيع أن نضيف إلى تصريحات خير، أن مجلس القضاء الأعلى الذي يجتمع اليوم ليرد على من يطالبه بإقالة القضاة الذين «رضخوا لمطالب سياسية وسجنوا الضباط الأربعة حوالي أربع سنوات من دون أدلة كافية»، على ما قرر القضاء الدولي. هذا المجلس مضطر إلى مراعاة العصبيات الطائفية لأنه شُكل على هذا الأساس. وإصلاحه يبدأ من إلغاء هذا الأساس بالذات، وإلا فإن أي حديث عن استقلاليته يبقى مجرد ورقة في يد هذا الطرف أو ذاك يستخدمها لمآرب سياسية. أما المجلس الدستوري المفترض به أن يراقب دستورية القوانين، فمعطل منذ عام 2005 لخلاف بين الطوائف على توزيع الحصص. بعد هذا كله هل نعجب من ترداد الضباط الأربعة الذين أفرج عنهم القضاء الدولي أن حبسهم كان سياسياً؟ إنها العصبيات تنتج حروباً أهلية، وتهدم الدول. رحم الله إبن خلدون.