في مطالع 2015، جاءت إجابة عن سؤال مملوء بالتحدي العلمي. أين حدث التزاوج بين ال«هوموسابيانس» وال«ناندرثال». كانت الإجابة مفاجئة نسبيّاً، إذ لم يحدث ذلك التزاوج في أوروبا، على نحو ما ساد الاعتقاد به طويلاً. ونعم. حدث التزاوج في الشرق الأوسط، قبل قرابة 55 ألف سنة، أي في منتصف المسافة الفاصلة بين أقدم ما يعرف عن ال«ناندرثال» (قرابة 60 ألف سنة) وانقراضه قبل قرابة 35 ألف سنة. لم يكن مهد ولادة «الإنسان الأوروبي الحديث»، وهو الجد الأول لشعوب أوروبا الحديثة، سوى الشرق الأوسط، بل بلدان المشرق العربي تحديداً. والأرجح أن معطيات علماء ال «بالينتولوجيا» تسخر تماماً مما ترتكبه أيدي عنصريي «داعش» في قلب الشرق الأوسط، التي تعمل على هدم معالم الحضارة الإنسانيّة فيها عبر انفلات لا عقلاني متغوّل وبربري تماماً. وكأن التمازج بين الشعوب يقول لهادمي معالم الحضارات القديمة في العراق إن عبثاً ما يفعلونه، لأن التخالط بين الشعوب قائم في قلب تكوين البشر، بل أنه موجود الآن في عمق تركيبتهم الوراثية والجينيّة. ووفق الدراسات العلمية الحديثة، جاء إنسان أوروبا الحديث، ذاك الذي تتحدر منه أنسال شعوبها، من الشرق الأوسط، تحديداً من المنطقة العربية. وعلى رغم أن البيولوجيا تملك سجلاً مرتبكاً في علاقتها بالعنصرية، بمعنى أنها استخدمت في تبرير فظائعها أحياناً، وقدمت أدلّة على بطلان مزاعمها في أغلب الأحيان، إلا أن ذلك لا يقلّل من شأن الكشف عن الأصل الذي جاء منه الإنسان الحديث الذي ملأ رحاب أوروبا منذ قرابة 45 ألف سنة. جمجمة في كهف وفق بحث نشر في مجلة «ساينس» Science العلميّة في مطالع العام 2015، تبيّن أن التزاوج بين الإنسان الحديث، وفق تعابير علماء ال»باليونتولوجيا»، والنوع المُسمّى «ناندرثال»، حدث في المنطقة العربيّة، إذ بيّنت بحوث دؤوبة أجريت على جمجمة عُثر عليها في كهف اكتشف صدفة في شمال فلسطين، أنها ترجع إلى قرابة 55 ألف سنة، وأن تركيبتها تبيّن انتماءها إلى «الإنسان الحديث» الذي ملأ أوروبا، وأنها تأتي من تزاوج بين ذلك الإنسان ونوع ال»ناندرثال». ووفق كلمات كاترينا هارفاتي، وهي اختصاصيّة في علم الإحاثة في جامعة «توبينجين» الألمانية «تمثّل تلك الجمجمة اكتشافاً مثيراً، بل أنها تملأ ثغرة في المكان والزمان، ضمن السجل التاريخي لعلم الإحاثة»، مشيرة إلى أن الجمجمة تمثّل الدليل على أن التزاوج مع ال«ناندرثال»، الذي وُلِد منه «الإنسان الحديث»، حدث في الشرق الأوسط، تحديداً في المنطقة الممتدة بين العراق والساحل العربي عند شرق المتوسط. وهناك جانب مأسوي أيضاً، جاء ذلك التزاوج في سياق فناء ال «ناندرثال» وانقراضهم، على الأرجح بيد من تزاوجوا معهم! وبذا، تكون قصة العمران البشري في أوروبا، أشبه بمسلسل استطاع علماء ال»باليونتولوجيا» تجميع حلقاته تدريجيّاً، عبر سلسلة من الاكتشافات التي توالت منذ العام 1960 في العراقوفلسطين. ما هي الخلاصات الممكنة من ذلك المسلسل التاريخي الطويل؟ جواب ذلك السؤال، بالأحرى أجوبته المتنوّعة، أمر متروك للقارئ.