ينقل الدكتور: عبدالله الوشمي ص 18 من كتابه ، قول أحدهم معارضا تعليم المرأة " إن تعليم الفتاة حرام ومن يقوم بتعليمها فاسق فاجر ، ويدفع بالفتاة إلى طريق الحرام ". إن هذه ليست مجرد كلمة عابرة لرجل عابر في الزمان والمكان، وإنما هي حكم ديني صادر عن خطاب الجهل في المسألة النازلة (= تعليم المرأة). إنها لغة خطاب ، قبل أن تكون حكم فرد . بل هي ليست مجرد لغة خطاب في سياق ظرفي محدود ، وإنما هي لغة (= نظام عقل ) تحكم مجمل وعي هذا الخطاب ، وتحدد مواقفه ، من حيث هو: خطاب تحريم. ولأن الوعي التقليدي المُتخلّف لا يستطيع مواكبة التحوّلات التي تفرضها المدنية المعاصرة ، فإنه يجابهها بالرفض. وبما أنه لا يستطيع أن يجد مُبرراً لهذا الرفض من داخل هذا الجديد ذاته ، أي بفحصه وتحديد طبيعته ومكوناته ، ومن ثم ، إصدار الأحكام المدنية التفصيلية بشأنه ، فإنه يهرب من كل هذا إلى آلية سلبية ، آلية الرفض الديني ( = التحريم ). ومن الواضح أن الرفض هنا لا يتأتى له إلا من هذا الطريق الوجداني ، الذي يسوق به جماهيره الشعارتية إلى حتفها ؛ بعد أن يقدم لها ثمن الحرمان ، وعدا مزورا بالغفران. جماهير خطاب الجهل والتخلف ، تكتفي بسماع مثل هذا ( الشعار ) التحريمي ، مضمخا بالنصوص ؛ فتسارع إلى التصديق والتصفيق . وتزداد المأساة مأساوية ؛ حينما يصدر هذا التحريم من أحد الرموز التقليدية ، التي عززت رمزيتها بمظاهر مخاتلة من التورّع ، ومن المزايدة في التحريم على بقية أطياف هذا الخطاب . وحينئذٍ ، يتحوّل حكمها التحريمي إلى مشروع وجداني عام ، بحيث يبدو وكأنه فوق الجميع ، بل فوق كل شيء ، مشروع لا يخضع لمنطق العقل ولا لمنطق الشرع . وبهذا يجري تغييب الاستدلال إذ لا مجال له في مثل هذه الوقائع المدنية الحديثة واستحضار التهم الكبيرة والمستفزّة ، والشعارات التي تخطف قلوب التائهين في ظلمات التقليد ؛ لتقوم مقام الدليل ، عند غياب الدليل . ومنذ أصدر سدنة خطاب الجهل والتخلف حكمهم ( الفضيحة ) بتحريم التعليم النظامي للذكور ، ثم التراجع عنه ، والاكتفاء بتحريمه للإناث ، ثم التراجع عن هذا أيضا وتحريم ... إلخ سلسلة المحرمات ، منذ ذلك ، وكل ما لم يألفوه يدخل في دائرة الحرام . والعلة الخفية الكامنة في أعماق اللاشعور ، أننا " ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين " . بينما التعليل الظاهر ، الطافح على منافذ الوعي الكسيح ، أن التعليم حرام ، أو أنه ذريعة إلى الحرام ، يجب سدها بآلية التحريم الشمولية: سد الذرائع. ولهذا ، أشار الوشمي ص49، إلى أن بعض من فتح مدارس حديثة ، اضطر إلى فتحها تحت مسمى: ( كُتّاب ) هروبا من مسمى: ( مدرسة ) ؛ لأن هذا المُسمّى الأخير حديث ، يشير إلى شيء لم يكن بالأمس . بينما المسمى الأول ، يشير إلى ارتباط الفعل التعليمي بالقديم . وهذا يبعث الطمأنينة في قلوب جماهير خطاب التقليد. هذا الهروب من كل جديد ، ولو بتغيير مسميات الأشياء ، يؤكد أن الموقف في أصله ليس دينيا ، وإنما الذي يحدث ، أنه يتم التصدي لكل جديد بأقوى الأسلحة ، وهو هنا : الدين . وهذا الهروب أو الرفض ، لا تقوم به الجماهير من تلقاء أنفسها ، وإنما تفرضه عليها أسماء كبار ، أو أسماء مُكبّرة ، ، لها وزنها في تراتبية خطاب التقليد والتبليد . وهذه الأسماء الكبار ، لا يستطيع الجماهيري البائس أن يتنكر لرمزيتها العالية ، فضلا عن أن يستطيع معارضتها على مستوى الفعل السلوكي المتعين. فالجهل هنا ليس مجرد واقعة جماهيرية ، بحيث يمكن العمل على محاصرتها بالفعل التعليمي ، وإنما هو هنا منتج تراكمي لإيديولوجيا خطاب الجهل والتجهيل ، إنه منتج تراكمي ، يمارس أيضا دوره في التمدد ، أي محاصرة عملية التعليم. لا يحاول الوشمي في كتابه تحديد الأسماء ( = أسماء الأشخاص ) صراحة ، مع أن توثيقه الدقيق للمقولات ، يجعل من الممكن لمن أراد الوصول إلى تلك الأسماء الكبيرة في تاريخ خطاب التقليد ، تلك الأسماء التي هاجمت التعليم بلسان الدين ، وأصدرت عليه أقسى الأحكام . الوشمي يذكر الأسماء ولا يذكرها ! . وربما كان لا يريد أن يجرح مشاعر عشاق هذه الأسماء المُكبّرة ؛ لأن مواقفهم كانت ولا تزال فضائح كبرى ، لا تفضحهم بأنفسهم فحسب ، وإنما تفضح أيضا تلاميذهم ، وكل المتماهين مع خطابهم الانغلاقي ، بل هي فضيحة مُدوية لكل خطاب التقليد. ولأن الأسماء كبيرة ، والفضائح كبيرة أيضا ، وجد الوشمي في ( صراحة ) الإحالات ما يكفي ، من باب ( أن الضرب في الميت حرام ! ) ، و ( ارحموا عزيز قوم ذل !) ، و ( من ستر مسلما ستر الله عليه !) . لقد كانت التهم التي صرّحت بها هذه الأسماء تهما فظيعة ، تهما تفضح طبيعة تفكير هذا الخطاب . فالوشمي يذكر ص 81 قصة ممانعة ( علماء الدين ) واحتجاجهم على إدارة المعارف ؛ لأنها تُعلّم الرسم واللغات والجغرافيا . وينقل ص 144 قول أحد كبار الممانعين لتعليم المرأة : " إني أنصح لكل مسلم أن لا يُدخل ابنته أو أخته في هذه المدارس التي ظاهرها الرحمة ، وباطنها البلاء والفتنة ، ونهايتها السفور والفجور ، وسقوط الأخلاق والفضيلة " ، ويقول أيضا " إن تعلم المرأة سبب لتمردها ". سيفاجأ كثيرون ؛ عندما يرجعون إلى مصدر هذا الكلام الخطير ( الدرر السنية ج 16 ص 74) ويعرفون أن مثل هذه التهم التي تمسهم الآن جميعا ؛ بحكم أن الجميع أدخل بناته هذه المدارس هي تُهمٌ صادرة عن رمز له قيمته الاعتبارية في الخطاب التقليدي ، وليست التهم صادرة عن ( طالباني ضال ) ، أو ( قاعِدي مُغرّر به ) . ألا يكفي أن تقرأ في الدرر ج 16 ص 97: " فاجأنا خبر فادح ومصيبة عظيمة وطامة كبرى ، ألا وهي فتح مدارس لتعليم البنات في المملكة العربية السعودية " ، وأن تقرأ : " يا أهل الغيرة والأنفة اسمعوا لهذا التصريح الشنيع الذي يقصد منه إرغام أهل الخير [ يقصدون أنفسهم ، وهي تزكية للنفس لا تصدر إلا عن ...] ومجاراة الأمم المنحلة في تعليم بناتهم الحساب والهندسة والجغرافيا ، ما للنساء وهذه العلوم " ، ألا يكفي أن تقرأ هذا ؛ لتعلم كيف يتم خداع الجماهير؟ هذه الآراء الصاخبة المتشنجة ، كان يمكن أن توضع في إطارها التاريخي ، ويتم التجاوز عنها ، بوصفها تعبيرا عن وعي مختلف . لكنها لم تكن كذلك ، بل كانت تصدر بوصفها فتاوى ، تُقرر حكم الدين في المسألة ، أي أنها كانت تُطرح كأحكام دينية أزلية ، تُعبر عن مراد الله في هذه المسألة المدنية. وهنا ، لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها ؛ لأنها أحكام باقية بقوة ثبات الحكم الديني ؛ ولأنها أيضا تُشرع لسلوك تقليدي مماثل ، لا نزال نعاني منه في مواجهة كل جديد ، حتى أصبحت مسألة علاقتنا بالتحديث: مسلسل فضائح ، لا ندري متى تنتهي ! . إذن ، المسألة ليست واقعة تاريخية ، حدثت وانتهت ، بل هي نمط تفكير فاعل ، نمط يصدر عن خطاب الجهل والتخلف ، يغذيه ويتغذّى به. بإمكانك أن تأخذ هذه النصوص التي تتهم تعليم المرأة بالفسق والفجور وانحلال الأخلاق ، وتضع مكان ( تعليم المرأة ) أية قضية راهنة ، أية قضية يُمانع فيها خطاب الجهل والتقليد . خذ مثلا ( قيادة المرأة للسيارة ) أو ( تعيين المرأة في المناصب الكبرى ) ،( بطاقة هوية المرأة ) وضعها في النص السابق مكان تعليم المرأة . لاحظ أن النص سيصبح على هذا النحو : " إني أنصح لكل مسلم أن لا ( يسمح لابنته أو أخته بقيادة السيارة ) التي ظاهرها الرحمة ، وباطنها البلاء والفتنة ، ونهايتها السفور والفجور ، وسقوط الأخلاق والفضيلة " . ومرة أخرى : "إني أنصح لكل مسلم أن لا ( تُعيّن ابنته أو أخته في هذه المناصب) التي ظاهرها الرحمة ، وباطنها البلاء والفتنة ، ونهايتها السفور والفجور ، وسقوط الأخلاق والفضيلة " . و أيضا : " إني أنصح لكل مسلم أن لا ( تستخرج ابنته أو أخته هذه البطاقة ) التي ظاهرها الرحمة ، وباطنها البلاء والفتنة ، ونهايتها السفور والفجور ، وسقوط الأخلاق والفضيلة ". والنص الثاني : " إن تعلّم المرأة سبب تمردها " ، ضع الجملة على هذا النحو : " إن ( قيادة المرأة السيارة ) سبب لتمردها " . وهذا ما يقال الآن صراحة ، ولم يتغير الخوف من تمرد ( = تحرّر ) المرأة . وهكذا ، ضع ما شئت ، ستجد أنها التهم نفسها ، التهم التي تسمعها الآن في هذه المسائل ، وستسمعها في كل جديد ؛ ما دام خطاب الجهل والتقليد يمارس خداعه باسم الدين. لقد تعمدت تكرار النص السابق ، مع تغيير المسألة المُعترض عليها ؛ لأن استشعارها ضروري للوعي بحجم المأساة ، ومن ثمَّ ، قطع الطريق على مسيرة الدجل الرائج في أوساط المتطرفين. المأساة ، كما أنها لم تنته بانتهاء ممانعة التقليديين لتعليم المرأة ، فهي كذلك لن تنتهي حتى ولو تجاوز التقليديون كل المسائل الحديثة التي يمانعون الآن فيها ، ووافقوا عليها. ستبقى المأساة ، ما بقي خطاب التقليد مثيرا للشغب ، ومؤسسا للتخلف ، ومانعا لكل تقدم باسم الدين. وإذا كان كثيرون يتصورون أن مثل هذه التهم التي تصِم المخالفين بالفسق والفجور ، لم يعد من الممكن تصورها الآن ، فهذا جهل بطبيعة خطاب التقليد . فهي حاضرة ، وبقوة . فإلى قبل سنوات ، كان بعض متعصبي خطاب الجهل والتقليد ، يصف من يصف من يقتني الفضائيات بأنه ( دَيّوث ) ، وبعضهم يفتي برد شهادته بمجرد اقتنائه الطبق الفضائي ! . والآن ، أصبح الأغلبية الساحقة من جماهير هذا المتعصب يضعون الأطباق ! . وانتقلت التهمة بالدياثة إلى مسائل أخرى جديدة . ولقد سمعت بعضهم يفتي جادا غير هازل بأن من يرضى ولو على مستوى القناعة الفكرية بأن تحصل إحدى محارمه على بطاقة هوية ، فهو ( ديّوث ) . ولن تنتهي هذه التهم ؛ ما لم يتخذ الجميع موقفا من هؤلاء المتعصبين المتطرفين ، الذين يقفون لكل تطوير بالمرصاد. ولكي نكون أكثر وعيا بخطورة هذا الخطاب علينا ، يجب أن نتخيل هذا الخطاب وقد انتصر في معركته ضد التطوير ، وأنه استطاع منع التعليم . إنه ولو حدث هذا ، لم نكن اليوم لنستطيع قراءة الكارثة ، لأن الكارثة ذاتها ستحجب عنا إمكانية رؤيتها . أي أننا سنكون على مستوى من الجهل والتخلف ، إلى درجة لا نعي فيها واقعنا . فالتعليم النظامي بكلا طرفيه كان موضوعا للرفض من قبل ( القلة ) المتعصبة ، التي تُحرّك وجدانيات الجماهير . وقد أشار الوشمي ص 68 إلى أن تعليم الذكور قد تمَّ بما يشبه الإكراه ، كما يشير ص 80 إلى أن التقليديين كانوا يهجرون الذي يتولى التعليم بالمدارس ، بزعم أنها بدعة ، وأنه معين على البدعة ..! . وهذا الموقف يشير إلى أي حد وصل رفض التعليم عند الخطاب التقليدي ، الذي هو في الحقيقة رفض لكل جديد في سياق تطير الإنسان. يلاحظ الوشمي على امتداد كتابه حركة التحوّل من الرفض إلى القبول ، بمجرد تحوّل هذا الشيء الجديد اللامألوف إلى شيء مألوف ، خاصة لدى الجماهير التي يخدعها الخطاب التقليدي بمقولاته ، ثم تكتشف أن كل ما قاله عن المسألة لم يكن أكثر من أوهام . ففي ص 65، يذكر كيف انصرف الناس عن التعليم النظامي للذكور ، نتيجة أن التقليديين أصدروا حكمهم بأنه : حرام . لكن ، ما إن اتضحت لهم منافع التعليم ؛ حتى بادروا إليه بكل صبر وإصرار . وهذا ما حدث أيضا في تعليم البنات ، فالوشمي يذكر ص167 حكاية الرجل الذي كان يجوب الأسواق مُحذّرا من خطر تعليم البنات ، لكنه بعد أربعين سنة جاء ( يتوسّط ) لبناته المتخرجات من الجامعة ، من أجل يظفرن بفرصة التعيين: معلمات . ومعنى هذا أن الرجل الذي وصل به الأمر إلى حد قيادة حركة احتجاج ، قد اقتنع بتعليم البنات في عشرين سنة أو أقل ؛ لأن المرأة تحتاج لثماني عشرة سنة ، منذ دخولها التعليم ، حتى تتخرج. ولا يقتصر الأمر على هذا النوع ، أي على الذين يرفضون الجديد ، ثم يقبلون به بعد أن تتساقط الأوهام التقليدية عن أعينهم ، بل لقد كانت الجماهير المؤيدة لموقف خطاب الجهل من تعليم البنات ، لا تعي سببا حقيقيا لموقفها . ويذكر الوشمي ص 59 مثالا على ذلك بالرجل الذي كان مرافقا للوفد الذي زار الرياض معترضا على تعليم البنات ، وعندما غادر الوفد الرياض بقي هو فيها ، وقَبِلَ وظيفة في رئاسة تعليم البنات ، وعندما سأله ابن عمه : كيف يقبل هذه الوظيفة وهو قد جاء معترضا اعتراضا دينيا على تعليم البنات ، قال " قيل تعال ، فجئت ، ولم أعرف لماذا جاؤوا " . وكثير من جماهير ( الأقلية ) المتطرفة ، تُساقُ بشعارات الدين ، وتأتي !، ولكنها لا تدري لماذا جاءت ، وإلى أين سيذهب بها.