خبير استراتيجي: "القضية الفلسطينية" مرتكز عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط و"الدولتين" هو الحل    جامعة الملك سعود تكرّم الطلاب والطالبات المتميزين في السنة الأولى المشتركة    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    القيادة تهنئ الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية في تشاد    كلوب يدعم إلغاء العمل بتقنية «فار» بشكله الحالي    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    السالم يلتقي رواد صناعة إعادة التدوير في العالم    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    مفتي المملكة يشيد بالجهود العلمية داخل الحرمين الشريفين    استكمال جرعات التطعيمات لرفع مناعة الحجاج ضد الأمراض المعدية.    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    أمطار وسيول على أجزاء من 7 مناطق    جوزيه مارتينيز حكماً لديربي النصر والهلال    تشكيل الهلال المتوقع أمام النصر    9 جوائز خاصة لطلاب المملكة ب"آيسف"    كاسترو وجيسوس.. مواجهة بالرقم "13"    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    السعودية والأمريكية    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    حراك شامل    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    كلنا مستهدفون    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تشومسكي ومأزقه الألسني . من المعرفة الفطرية المسبقة الى المخيّلة اللغوية الفعالة
نشر في الحياة يوم 09 - 02 - 1998

هل تُكتَسب اللغة بالتجربة والمهارة ام هي شيء يحدث لنا كما تنبت الاسنان وتتكوّن الأذرع؟ هل هي برنامج وراثي مزروع في الخلايا نقوم بتنفيذه ام ان علاقتنا بها هي علاقة إبداع وتوليد؟ بسؤال اقرب الى مفهومه: هل الذي يتكلم لغة من اللغات هو مجرد "ناطق" بها ام هو فاعل فيها؟
هذه اسئلة تُدخلنا رأساً الى نظرية تشومسكي التوليدية التي خرج بها العام 1957، على الاوساط اللغوية والفكرية، عبر كتابه "البنى التركيبية". ومفاد هذه النظرية ان اللغة البشرية هي ملكة فطرية، ذات مظهر إبداعي، تتجلى في القدرة على فهم وإنتاج ما لا يتناهى من الجُمل الصحيحة، من خلال "نسق صوري" متماسك يدخل في التركيب العضوي للدماغ، بمقدار ما يشكل جزءاً من النظام الإدراكي للعقل.
هذا النسق اللغوي الوراثي قوامه جملة محدودة من المبادئ العامة يسمّيها تشومسكي "الكليات النحوية"، ويرى انها تتحكم في جميع اللغات البشرية. ومن الامثلة التي يوردها على هذه الكليات ان قواعد اللغة تعتمد على البنية، وأن الضمائر لا بد ان تكون حرة في مجالها، وأنه لا تناظر بين الفاعل والمفعول، كما جاء في كتابه "اللغة ومشكلات المعرفة" ترجمة حمزة بن قبلان المزيني. والكليات النحوية، بوصفها كذلك، تشكل موضوع "النحو الكلي"، وهو فرع استحدثه تشومسكي يهتم بدراسة "الحالة الأولية" للملَكة اللغوية السابقة على كل تجربة، كما يهتم بمعرفة الكيفية التي يتم بها "اشتقاق" اللغات المعيّنة من المبادئ العامة، بواسطة "المتغيرات"، التي تقترن بها، والتي يمكن ان تتخذ اوضاعاً مختلفة يتولد عنها اختلاف اللغات كالعربية او الانكليزية او الصينية.
بذلك تكون وظيفة النحو الكلي، هي اولاً صياغة المبادئ العامة والثابتة للغة البشرية، وهي ثانياً تفسير كيفية ترجمتها الى لغات متعددة او شرح آليات تحويلها الى قواعد خاصة بكل لغة. من هنا سمّيت نظرية تشومسكي "توليدية" او "تحويلية".
فهي توليدية بمعنى انها تتيح لنا ان نفهم كيف يكون بالامكان استخدام وسائل متناهية بصورة غير متناهية، اي انتاج تعابير سوية وحرة بصورة متواصلة ومتجددة الى ما لا نهاية له. وهي تحويلية بمعنى ان مبنى النشاط اللغوي هو "الفرق" الحاصل بين نظامين او مستويين من المعلومات والاجراءات، الامر الذي يجعل هذا النشاط عبارة عن ترجمة او تحويل، عبر قواعد واليات تشتغل بين الملكة والقدرة، او بين الكفاءة والأداء، او بين المعرفة والعمل، او بين البنى العميقة والبنى السطحية، او بين المبادئ العامة والثابتة والاستعمالات الفردية والخاصة المتغيرة.
والملكة اللغوية، ذات القدرة الإبداعية، وحدها برأي تشومسكي تتيح لنا بكلياتها النحوية وقواعدها التحويلية تفسير الوقائع الأساسية للغة البشرية، اي هي التي تتيح لنا ان نفهم كيف ان الطفل يتعلم اللغة بأدنى جهد وبسرعة قياسية، بحيث يكون بمقدوره ان يفهم ويركّب جملاً صحيحة لم يسمع بها من قبل، مع ان النظام اللغوي هو نظام معقّد يستغرق درسه ووصفه سنوات عدة من قبل العلماء وأهل الاختصاص.
والنظرية التوليدية هي اشبه ما يكون بنظرية المثل عند افلاطون او بالأفكار الفطرية عند ديكارت. من هنا فان تشومسكي يعود في تفسيره للواقعة اللغوية، ليس فقط الى ديكارت الذي ألهمه حدوسه، بل الى افلاطون بالذات، متخذاً من حوار سقراط مع العبد الذي تعلم منه مبادئ الحساب، من غير تدريب سابق، نموذجاً لبناء نحوه التوليدي، معتبراً ان الناطق بلغة من اللغات لا يتعلمها إلا لأنه يتمثل اساساً، ومن غير وعي، نظاماً ادراكياً يسمح له ببناء جمل صحيحة او استخدام تعابير حرة لم يسبق سماعها. وكما ان المعرفة عند افلاطون هي تذكر لما كانت النفس تعرفه مسبقاً في عالم المُثُل، كذلك شأن اللغة عند تشومسكي: فالطفل لا يتعلم من الألفاظ والمفردات، إلا ما يتوافق مع قائمة التصورات والمفاهيم الموجودة لديه، في العقل او في الدماغ، بصورة سابقة على وجود اللغة نفسها.
وهكذا يعود تشومسكي الى مقولة "المعرفة الفطرية" القديمة، يستنجد بها ويقوم بتعويمها من اجل تفسير الحدث اللغوي الذي هو ابرز واقعة في العالم البشري. من هنا تنفتح نظريته التوليدية على ضربين من القراءة: الأولى تقرأ ماهية اللغة من خلال مقولات الطبيعة والدماغ او الذاكرة والوراثة او الآلة والضرورة. اما الثانية فانها تحاول تفسير النشاط اللغوي من خلال مفاهيم العقل والثقافة والحرية او الابداع . ولا مُراء في ان النموذج الذي ابتكره تشومسكي لفهم الوقائع اللغوية ينطوي على الجِدّة والأصالة، اذ هو قَلبَ النظرة الى اللغة وأحدث تحولاً في التفكير الألسني من خلال مفاهيم النحو التوليدي، والقواعد التحويلية، والكفاءة اللغوية، والأداء اللغوي، وسواها من المصطلحات التي جرى انتشارها وتداولها، في الميدان الألسني وخارجه، لما قدمته من الامكانات الخصبة للشرح والتفسير.
وفضلاً عن ذلك، فانه مع تشومسكي يتعدى التفكير في اللغة المجال الألسني الى مجال الفلسفة ونظرية المعرفة وعلم النفس، بحيث يُعاد طرح او إحياء شبكة من الأسئلة والمشكلات المتعلقة بالقدرة المعرفية والبنية الإدراكية والكفاءة اللغوية، استأثرت باهتمام الفلاسفة والعلماء من افلاطون الى غاليليه ومن ديكارت الى برتراند راسل. غير ان تشومسكي مذ بَلور حدسه الخلاّق والمثمر، المتمثل في مفهوم التوليد او التحويل، لم يتقدم الى الامام لتطوير نظريته، بمقدار ما اشتغل كحارس لأفكاره. فقد كان هاجسه الدائم الدفاع عن عقيدته الفطرية حول الكليات النحوية الوراثية، معتبراً ان البيئة والتجربة والمهارة كلها ليست سوى "قادح" لكي يعمل النظام اللغوي الموروث على نحو ما تتحول البيضة الى دجاجة، او كما تنفّذ الخلية الحية برنامجها الوراثي لتوليد خلية اخرى.
تشهد على ذلك جهود تشومسكي العلمية التي أعقبت ولادة نظريته في النحو التوليدي، وهذا ما تجلى ايضاً في المناظرات والمساجلات التي انخرط فيها لمواجهة الذين اعترضوا على نظريته من المناطقة وفلاسفة اللغة وعلماء اصول المعرفة أمثال ويلارد كواين وجوناثان كوهن وجان بياجيه وأندريه مارتينيه.
نعم ان تشومسكي يفيد من مواكبته المستمرة للمستجدات المعرفية في بعض الفروع والميادين كعلم السلوك وعلم الوراثة والفيزيولوجيا العصبية والثورة الادراكية وثورة المعلومات. ولكنه يوظف ذلك كله من اجل التأكيد في فهمه اللغة على مقولات التكوين الوراثي والفطرة الاصلية والطبيعة الانسانية، وبصورة تقود الى نسف مفهوم الإبداع اللغوي من غير وجه:
اولّها ان تشومسكي فسّر التوليد تفسيراً رياضياً بوصفه مجرد تعداد إحصائي او إجراء حسابي، مجرّداً بذلك اللغة من نبضها الحي وكثافتها التعبيرية وشحناتها الرمزية، بعد تحويلها الى نسق صوري هو عبارة عن مجموعة من المبادئ العامة والقواعد المجردة. من هنا ازدراؤه لما تنطوي عليه اللغة من التقنيات الاسلوبية والأبعاد البيانية او الجمالية، كما رَوَتْ عنه الكاتبة والمحللة النفسية جوليا كريستيفا.
ثانيها ان تشومسكي تعامل مع اللغة بعقل غيبي ماورائي، بحثاً عن حالة اولية او بنية اصلية او لغة مثالية تتعالى على التجارب والخبرات او تسبق النصوص والكتابات. وهذا ما جعله يستبعد ما يحدث على ارض الواقع اللغوي، المحسوس والمعاش، من الانشاءات الخطابية والأفعال الكلامية، او ما ينبني ويتحول من التراكيب النحوية والروابط الدلالية.
وثالثها ان تشومسكي يجرّد الانسان من فاعليته، للتعامل معه بوصفه مجرد ناطق بلغة تتحكم به او مجرد منفذ لبرنامج وراثي يسبقه ويقوده من حيث لا يعقل ولا يشاء. ولا عجب، فما طمح اليه تشومسكي منذ البداية، ليس فهم كلام المتكلم بحيويته وجدته وفرادته، بل التفتيش عن "متكلم مثالي" ينتمي الى مجموعة لغوية هي في غاية التماثل والانسجام. بذلك تناسى صاحب النحو الكلي الواقع اللغوي المراد تفسيره، بمقدار ما تعامل مع اللغة كماهية ثابتة او كهوية مسبقة او كقوالب متعالية، معتبراً ان الوقائع اللغوية هي مجرد شواهد للاستدلال على الهوية الماورائية او الوحدة اللاهوتية للغة، على نحو ما يستدل علماء اللاهوت على العالم الإلهي من خلال العالم المرئي، باستخدام قياس الشاهد على الغائب.
هنا بالذات يكمن مأزق تشومسكي: الدفاع عن النحو التوليدي بعقل لاهوتي ومنطق تقليدي، الامر الذي جعله مشدوداً بفكره الى الوراء، ولذا فهو يبدو في نظريته حول النحو الكلي تقليدياً قياساً على ديكارت. ذلك ان الانجاز الديكارتي لا يتمثل في القول بوجود افكار فطرية، بل في القول: انا افكر اذن انا اكون. ومؤدى هذا القول خروج الانسان من عجزه ومفعوليته او مخلوقيته، لممارسة وجوده على سبيل الاستقلالية والفاعلية والحضور، عبر نتاجات الفكر وإبداعاته.
اما تشومسكي فقد جعل الانسان اسير طبيعته، باختزاله مفهوم التوليد وجانب الابداع في اللغة، الى مجرد اجراء حسابي يرى بأنه كامن في غياهب العقل او في تلافيف الدماغ. من هنا تعامله مع اللغة والمعرفة والعقلانية بوصفها معطيات عضوية وراثية، اي بوصفها فقط ما نرثه او نتذكره طبقاً لنظام الطبيعة وآلياتها، لا بوصفها ما نقوم باكتسابه وتحصيله او بصنعه وإنجازه. بذلك يتراجع تشومسكي عن مشروعه التوليدي وينقلب على انجازه الألسني الإبداعي. وهذا شأن العالم عندما يتفلسف بمنطق علمي او رياضي.
المخيّلة الخلاّقة
هذا المأزق لا يمكن الخروج منه إلا بالتخلي عن المقولات التي تتعامل مع اللغة بعقل ماورائي او بمنطق صوري تقليدي. فالحالة الأولية والبنية الماورائية والتركيبة الوراثية والمعرفة الفطرية، مثل هذه الشبكة من المفاهيم لا تفي بوصف النشاط اللغوي وتفسيره. ذلك ان الانسان، بمجرد ان يفكر ويتخيل او يرمز ويتكلم، يتعدى المجال العضوي والوراثي نحو مجال آخر يجسده النشاط الثقافي والفعل التواصلي والوسط المفهومي او الابداع التخيلي. ولو كانت اللغة تحدث كما تتكون الأذرع او كما تتحول البيضة الى دجاجة، لكان الناس يتكلمون لغة واحدة تختلف لهجاتها لا اكثر كما تختلف ذراع الواحد من البشر عن ذراع سواه، ولانتفى اساساً فعل الخلق والإبداع او عمل الفهم والبناء، ولانعدمت القدرة على ممارسة الفعل والتأثير...
ثمة "مخيلة لغوية"، اذا جاز الاصطلاح تقف وراء الكلام وتمارس انتهاكها للطبيعة، بمقدار ما تفتح المجال امام لعبة الممكنات، اي القدرة على الانتاج اللغوي بصورة حرة، متواصلة ومتجددة. ولذا فالذي يتكلم لغة من اللغات ليس مجرد "ناطق" بها، بل هو "فاعل لغوي"، كما اؤثر التسمية، بمعنى انه يفعل باللغة وفيها، بمقدار ما يخلق عبر كلامه وأدائه، عالماً ممكناً يسهم في اعادة انتاج اللغة كبنية تفاضلية، من الفروقات والعلاقات، يجري تفكيكها وإعادة تركيبها، باستمرار، على نحو توليدي تحويلي. بهذا المعنى تصبح اللغة عبارة عن خلق مستمر تتغير معه عما هي عليه، بمقدار ما يجري النطق بها او التفكير فيها بصورة خلاّقة ومثمرة.
وهذا ما فعله كبار علماء اللغة مثل دوسوسير وياكبسون حديثاً، او مثل سيبويه والسيرافي قديماً: انهم لم يتملكوا، معرفياً، الواقع اللغوي بنموذجه الاصلي او مبدأه الأولي" وإنما ابتكروا نماذج معرفية او ابتكروا عوالم مفهومية شكلت وقائع مهمة تغير معها المشهد على الساحة الألسنية. وهذا شأن المفهوم المهم والخارق: لا يتطابق مع واقع، بل يحتل موقعاً على ساحة الفكر، بمقدار ما يخلق مجالاً للتفكير او للعمل، يعاد معه تشكيل الموضوع او انتاج العلاقة بالواقع.
وهذا بالذات ما انجزه تشومسكي بابتكاره لمفهومات التوليد والتحويل او الأداء. انه لم يقبض بجهازه المفهومي الجديد على حقيقة اللغة بصورة موضوعية بمقدار ما افتتح مجالاً جديداً للتفكير في الوقائع اللغوية، تغيّر معه مفهوم اللغة والعلاقة بها، اي علاقة اللغة بكل ما عداها.
ولذا فان تشومسكي، بكلامه على الكليات النحوية والمعرفة الفطرية، لا يفعل سوى حجب ما احدثه من التحول على الساحة الألسنية بنظريته الجديدة حول التوليد والتحويل، اذ هو لم يصف بنية عميقة او يقبض على حالة اولية، بمقدار ما قام بصرف الاشكالات العالقة وتحويل الموضوعات السابقة من خلال المجال الجديد الذي ولد معه.
نقد المنطق الصوري
هذا ما يمكن ان يقود اليه فكر نقدي للمنطق التقليدي، الصوري او المتعالي، وذلك حيث المعرفة بالشيء لا تعود قبضاً على الماهيات الثابتة او المفاهيم المحضة، بل كل معرفة بشيء تخلق واقعاً يتغير معه الفكر والواقع نفسه. غير ان تشومسكي لم يفد من نقد المنطق وتحولاته، بل آثر القهقرى، للتعاطي مع نظريته التوليدية بعقلية غيبية، لاهوتية او ناسوتية، متكئاً بذلك على مقولة الطبيعة البشرية الهرمة، التي تشكل الداء المزمن للفكر الفلسفي والعلمي، من افلاطون حتى تشومسكي وتلامذته من العرب والغربيين. ذلك ان البحث عن الجوهري والأصلي والكلي والمثالي، فضلاً عن المسبق والثابت والواحد، يصدر عن شبكة من الأوهام والتهويمات لا تنتج سوى سلسلة من المآزق والمفارقات.
يتجلى ذلك عند تشومسكي في رفضه، بداية، الاتجاهات السلوكية والتجريبية او الذرائعية، باسم العقلانية والإبداعية، لكي ينتهي الى تبنّي العقيدة الفطرية التقليدية والإشادة باليد الاصيلة للطبيعة البشرية، كما جاء في مقالة له منقولة الى العربية بعنوان "اللغة والفكر، بعض التأملات في موضوعات مبجّلة" ترجمة ياسين الحاج صالح، هكذا متعاملاً مع العقلانية بوصفها مجرد معطى عضوي آلي.
مثل هذا الموقف يقوض، من جهة، إبداعية النحو التوليدي، لأن الابداع هو خروج على آلية الطبيعة وتحوّل عن عماء الفطرة. ويجعل، من جهة ثانية، المعرفة مجرد تحصيل حاصل، اي مجرد ادراك لما سبق تصوره او تذكره، في حين ان المعرفة هي اشتغال على المعطيات وتحرر من المسبقات وتحويل للعلاقات، من اجل توليد الجديد وعلى نحو غير مسبوق. ولم يكن النحو التوليدي في مبتداه، سوى ذلك، اي هو جديد معرفي في المجال الألسني وهذا الجديد هو ثمرة الجهد والتراكم والخبرة والمراس، اي هو صناعة وإنتاج.
ولو كان الأمر مجرد فطرة طبعنا عليها، لما كان ثمة معنى لكل النقاش بين تشومسكي وخصومه. لأن الفطرة هي نقيض المعرفة. وهذا ايضاً ما حجبه تشومسكي في خطابه "الفطري": كون المعرفة التي قدّمها لنا حول اللغة، وكيفية معرفتها، هي فعل خلق وانتاج، يولد معه الجديد، بمقدار ما يجري تحويل القديم، بالعمل على اعادة تشكيل الموضوع الذي نريد معرفته. ولذا فان نتاج تشومسكي، اي نصوصه التي تجسد خبرته وإبداعه وتحولاته المتواصلة، تشهد ضد خطابه وبياناته حول المعرفة الفطرية المسبقة.
بهذا المعنى نحن لا نفكر لكي نعرف ما هو موجود مسبقاً، او ما سبق لنا ان تصورناه، بل لكي نتحول عما نحن عليه، ونغير علاقتنا بالأشياء، عبر أدواتنا الفكرية ومركباتنا المفهومية وشبكاتنا اللغوية. اما مقولة "المعرفة الفطرية" فإنها تقوض نفسها بنفسها، لأن معرفة المعرفة لا يمكن ان تكون فطرية، ولأن المعرفة الفطرية تعني اساساً ان ثمة طبيعة هي التي تعرف، كما تنبت الاسنان وتتكوّن الاعضاء.
ان مقولة المعرفة الفطرية لا تتيح لنا ان نفهم كيف تتحول اللهجات الى لغة واحدة، او العكس كيف تتفرع من اللغة الواحدة لهجات بل لغات، ذلك ان هذه المقولة تلغي تاريخية اللغة، اي كون اللغات هي فروقاتها وكون العلاقة بها هي علاقة تحولاتها. من هنا فإن مقولة "المعرفة الفطرية" تقود على الصعيد المعرفي الى العماء او الى تحصيل الحاصل، تماماً كما ان مقولة الطبيعة البشرية، وشقيقاتها، كالفطرة الاصلية والسلالة المتفوقة او الأمة المختارة، تؤول، على الصعد الاخلاقية والاجتماعية والسياسية، الى الطوبى والمثالية، او الى الاصولية والارهاب، او الى العنصرية والاصطفاء.
الأحرى ان تُفهم اللغة كسيرورة إبداعية تتيح، عبر الفاعلية التخييلية والمفهومية، التعامل مع المعطيات الطبيعية بصورة غير آلية، اي بصورة مرنة ومفتوحة تتجاوز منطق الضرورة الصارمة والتنفيذ الآلي. بالطبع ان الكائن البشري هو جملة من الأعضاء والأجهزة والآلات. ولا شك في ان عمل الحاسوب يسلط الضوء على آليات الفكر وطريقة اشتغال العقل، وعلى نحو يحمل على إعادة النظر في إشكالية الفكرة والأداة، باتجاه فكرنة الأدوات او خلع الطابع الأدائي على الفكر. وتشومسكي بارع في هذا المجال، اي في قراءة الفكرة بلغة المعلومة والشيفرة، بمقدار ما هو بارع في مساجلة خصومه والذين يناهضون نظريته.
ومع ذلك فان ما هو طبيعي او فطري في مجال معرفة اللغة او لغة المعرفة، هو المعطى والمادة، وليس الأداة او المحصلة، اي هو رأس المال الذي ينبغي صرفه وتحويله، او الواقع المراد تغييره وإعادة انتاجه، عبر الفاعلية الذهنية التي تتيح الفهم والتدبر والتأثير، باشتغالها على الطبيعة وآلياتها. وهذا شأن الفاعلية البشرية: تحويل المعطيات الطبيعية الى خبرات وجودية هي مراس ذاتي ولغات مفهومية يتحول بها العالم عما هو عليه، بخلق الوقائع وإنتاج الحقائق.
المنطق التحويلي
أخلص من ذلك الى القول: ان التعاطي مع اللغة، بالمعرفة والعمل او الاستعمال، يحتاج الى شبكة من المصطلحات تتجاوز منطق النحو الكلي الذي يحيل اللغة الى هيكل نظري خاوٍ، على ما يتصور الواقع اللغوي المُعاش اصوليو اللغة الباحثون عن كلياتها المتعالية ونماذجها الاصلية. غير ان اللغة هي، بجسدها وخرائطها، اقوى من ان تُختزل الى نسق نظري او صوري، كما تشهد على ذلك ابداعية الناطقين بها او فاعلية المشتغلين فيها وعليها. انها ليست طبيعة ثابتة او فطرة اصلية او هوية مسبقة او شجرة واحدة او قاعدة مجردة، بمقدار ما هي بيئة او خبرة او صناعة او علاقة او رسالة. والأحرى ان نتحدث عن شبكة متواصلة لا تنفك عن التوالد والتكاثر او عن الاختلاف والتجدد او عن التحول والتبدل.
مثل هذه المفاهيم تصدر عن منطق جديد ومغاير أسمّيه "المنطق التحويلي" بقي تشومسكي مغلقاً بفكره إزاءه، بمقدار ما استبعد الانجازات الفكرية التي تحققت في الفلسفة وعلوم الانسان، بدءاً من نيتشه مع نهاية القرن الماضي، حتى ريتشارد رورثي مع نهايات هذا القرن، مروراً طبعاً بمفكري ما بعد الحداثة في فرنسا، وأعني بهم الذين أعادوا تكوين المشهد الفكري، في النصف الثاني من هذا القرن، على نحو تغيرت معه مفهوماتنا للغة والفكر والمعرفة والحقيقة.
غير ان تشومسكي آثر الرجوع بفكره الى الوراء لإحياء ما مات من اسئلة افلاطون وديكارت وراسل حول معرفة المعرفة او حول معرفة اللغة؟ لقد انشغل بالبحث عن اسرار القدرة اللغوية، فيما المطلوب ان نفهم عجز اهل المعرفة باللغة عن تعريفها بصورة حاسمة. وكان هاجسه الوصول الى قاعدة كلية تندرج تحتها كل اللغات، فيما المطلوب تفسيره هو عجز علماء اللغة عن استيفاء البحث في حرف لغوي مثل "حتى". وحاول ان يعرف كيف يؤتى للإنسان ان يعرف كل ما يعرفه مع قصر عمره وتجربته المحدودة مع العالم، متناسياً ان الذي يفسر لنا ذلك هو منطق التحويل والتوليد.
وهكذا عاد تشومسكي الى القديم، لا لكي يقرأه قراءة حديثة او معاصرة، بل لكي ينفي الحداثة ويهرب من المعاصرة. ولذا عندما سأله الدكتور عبد الوهّاب المسيري، اثناء مجيئه الى القاهرة محاضراً منذ سنوات، عن موقفه من مفكري ما بعد الحداثة، اجابه بلهجة جافة وصارمة: انها ثرثرة المثقفين الفرنسيين الذين يجلسون في المقاهي للكلام على ما لا فائدة منه.
ومثل هذا الكلام يدعوني الى القول انها نرجسية المثقف كما يجسدها تشومسكي، والأحرى القول انها لاديموقراطية داعية الديموقراطية، التي هي الوجه الآخر لرجعيته الفكرية والفلسفية.
ومع ذلك اختم بالقول ان هذا النقد لتشومسكي ليس نفياً له، بمقدار ما هو اعتراف بإنجازه وعودة اليه. فأنا اخرج عليه منه بالذات، محاولاً استثمار مجال قد فتحه، لفتح امكان جديد يمثله المنطق التحويلي. فهذا ما يحتاج اليه النحو التوليدي للخروج من مأزقه، وليس النحو الكلي بمنطقه التقليدي وأساسه الماورائي.
ذلك انه مع المنطق التحويلي لا يُبحث عن نقطة النهاية، بالعثور على مبدأ أصلي يشكل التطابق معه تملكاً للحقيقة اللغوية، وإنما يُرى دوماً الى الواقع اللغوي من خلال الفروقات والاختلافات التي لا يمكن إفناؤها بين الألسن واللهجات والأساليب، والتي يجري العمل عليها، بالصرف والترجمة والتحويل، بما يفضي الى اشتقاق امكانيات جديدة للمعرفة والعمل على الصعيد الألسني او اللغوي. فالاختلاف هو مبنى الواقع اللغوي، في حين ان التحويل هو شكل التفكير في هذا الواقع. وبهذا المعنى كل مفهوم يُبتكر في قراءة ما يحدث او يستجد لغوياً، يتحول هو نفسه الى حدث يحتاج الى القراءة، صرفاً وتحويلاً، بما يؤدي الى توسيع المجال الألسني وإغنائه بالجديد او المثير او الاصيل من المجالات والإشكالات او المفهومات.
هذا هو منطق الخلق والفتح والفاعلية. اما منطق الصورة الذي يأخذ به تشومسكي حيث اللغة مرآة العقل، وحيث العقل مرآة الطبيعة، فانه منطق التبسيط والخداع والهشاشة. ولذا، فان نقد هذا المنطق، على ما مورس هنا، هو محاولة الخروج من المأزق ومغادرة مواقع العجز والهامشية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.