ربنا الحكيم سبحانه خلق الكون واسعا، وقدر أن يكون مستمرا في الاتساع والتمدد «وإنا لموسعون»، وعلى الأرض خلق سبحانه البشر مختلفين متنوعين تسعهم الأرض الرحبة. إن دوائر واسعة كالحرية التي لا تضر بالآخرين، والآدمية التي كرم الله المنتسبين لها ووضع لهم الأرض وسخر لهم الدواب والبهائم للخدمة والانتفاع، ودائرة الإسلام التي وسعت كل المسلمين على اختلاف عقائدهم ومدارسهم الفكرية والفقهية، هذه الدوائر ونحوها يجب أن تبقى واسعة، وتضييقها لا يستمر وإن بقي لبعض الوقت محاباة لرأي أو مجاملة لمدرسة، لا يستمر لأن الناس يريدون السعة وحرية الاختيار، وقد يختارون ترك مناكفة من يريد تضييق لأن حجته أقوى ولأنه يعلم تفاصيل الأثر وتفريع المسائل، ولكن الرحمة تظل أوسع، وأن الإنسان الذي اختار الحياة في الدوائر الأوسع لن يحرم بحول الله من رحمة الله التي وسعت كل شيء، إن كان من المؤمنين المتقين المؤتين الزكاة، وهذه الأعمال أقصد الإيمان والتقوى وإيتاء الزكاة قد لا يراها الناس كما يرون بعض مظاهر التدين الأخرى كاللحية والثوب القصير والزبيبة. إن الملائكة الكرام حين دعوا الله تعالى أن يغفر للمؤمنين قدموا الثناء قبل الدعاء واختاروا أن يقولوا: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما). فسبحان الله ما أرحمه، وسبحان الله ما أعلمه. شخصيا لا أقف كثيرا عند الدوائر الضيقة أو الصغيرة، وليس ذلك هروبا من التحقق من مراد الله تعالى، بل قناعة انتهيت إليها بعد أن درست الشريعة في الجامعة والمسجد، وعشت سنين خارج بلاد الإسلام، وتأملت في البشر وحياتهم، وزرت دولا إسلامية يعبد أهلها ربهم على منهجهم الذي نشأوا عليه ودرسوه، وقرأت في مقاصد الشريعة، ونظرت في الكتب التي ترجمت لعظماء الإسلام فلم أجدهم حين يترجمون لأحد العلماء يقفون كثيرا عند مظهره وملبسه وعاداته، بل يذكرون مآثره وآثاره التي نفع بها المسلمين والبشر، يذكرون مؤلفاته، والتغيير الذي تركته مدرسته، وصدوره ووروده عن المصدرين الكتاب والسنة، أي أنهم يذكرون الأمور الكبيرة التي تستحق الذكر. إن العيش في الدوائر الأوسع يهب الإنسان الرضى، ويدفعه للترفع عن صغائر الاهتمامات، ويرزقه النية للعمل الجاد المفيد الذي ينفع الناس ويمكث في الأرض ويترك الأثر، فالحياة في السعة تورث البركة، والبركة ليست ضيقة ولا صغيرة وليس لها حدود يضعها الناس.