إن الأمم لا تتطور إلا من خلال فكرها، وأن ما يعرقل تطويرها هو التقليد، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يطور الأمة العربية في جاهليتها بدأ من تقويم التفكير فعمد إلى تشخيص الحالة، فوجد أن العربي يومذاك لا يؤمن بفكرة المصير فقد كان معتقدا أن الفناء هو نهاية الإنسان، لهذا نجد أن العربي كان يقدس الآباء ويجنح إلى علم الأنساب. بدأ عليه الصلاة والسلام بعلاج هذا الداء، فدعا قريشا ذات صباح، وقال لهم: لو قلت إن عدوا خلف هذا الجبل أمصدقي أنتم؟ قالوا له: والله ما جربنا عليك كذبا قط، فقال لهم: والله إنكم لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون، والله إنها لجنة أبدا، أو نار أبدا. بهذه الكلمات القصيرة العميقة حول طريقة التفكير من الإنكار للمصير إلى الإيمان به، وجعلهم يقولون: «أإذا كنا عظاما نخرة، قالوا: تلك إذا كرة خاسرة»، لقد أدركوا وقتها أن هناك بعثا، وأن هناك حسابا، وأن هناك عقابا، وبهذا تولد لديهم ما يعرف بمحاسبة النفس التي قادتهم فيما بعد إلى الإسلام والإيمان، وجعلت للقيم هدفا هو ابتغاء رضوان الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فأتمها بأن جعل لها هدفا هو طاعة الله. والأمة الإسلامية لم تدخل عصر الازدهار الحضاري إلا في العصر العباسي الذي حاولت الشعوبية تشويهه بكل الصور، فعصر النبوة كان إرساء للقواعد الإيمانية والثقافية والفكرية، وعصر الخلافة كان تكريسا للنص والحفاظ عليه وبشكل خاص القرآن الكريم والسنة العملية وما ثبت بدقة في السنة القولية. جاء العصر الأموي فاتسعت الفتوحات مما تسبب في وحدة الأمة الإسلامية وخفف كثيرا من الصراعات الداخلية، ثم جاء عصر الدولة العباسية عصر الانفتاح على الثقافات المتعددة التي كانت من ثمار الفتوحات الأموية، وانتقلت الخلافة من الشام إلى العراق وعرفت بغداد بدار السلام. ظهرت يومها مدرستان في الشريعة الإسلامية، مدرسة الحديث والنص في المدينة وإمامها مالك بن أنس، ومدرسة الرأي والاجتهاد وإمامها أبو حنيفة النعمان في بغداد، كانت المدينة تنعم بوجود الأحاديث ووفرتها، ومع ذلك كانت النوازل محدودة فكان النص قادرا على احتواء النوازل. أما في بغداد فكان العكس في ذلك، فالنص كان محدودا والنوازل كثيرة بسبب التطور وتعدد الثقافات، فوسع أبو حنيفة من دائرة الاجتهاد وإعمال الفكر دون الخروج على روح الشريعة ومقاصدها، معتمدا على نصوص القرآن الكريم والأحاديث قطعية الدلالة، وتطور الفقه حتى بلغ حد الترف فظهرت مدرسة الأرأيتيين، فكان المفتي يسأل أرأيت لو حدث كذا وكذا ما أنا بفاعل؟، فيرد عليه تفعل كذا وكذا. ومن هنا ظهر علم المستقبليات الذي لم تعرفه الدول المتقدمة اليوم إلا عام 1986 للميلاد عندما ألف كوهل كتابه (التفكير فيما لم يتم التفكير فيه). وهناك من أخذ بروح الشريعة وأعرض عن النص المخالف ودافع عن الإسلام وأسلم للعقل العنان وهؤلاء هم علماء الكلام، وكان إمامهم واصل بن عطاء، الذي اعتزل مجلس الحسن البصري وقاد فكر المعتزلة، فتعددت مدارسهم كالجاحظية والنظامية وغيرهما. كل ذلك دعا الإمام محمد بن إدريس الشافعي إلى البحث عن قواعد تلزم المجتهدين وأصحاب الفتاوى بضبط الاجتهاد، وعدم الخروج بالأحكام بعيدا عن مقاصدها، فتلقى العلم عن تلاميذ أبو حنيفة النعمان من أمثال محمد بن الحسن الشيباني ورحل إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك بن أنس، ودرس الموطأ، فكان من ثمار ذلك أن أسس القواعد لأصول الفقه الذي يركز على كيفية استخراج الأحكام من أدلتها التفصيلية. وبهذا جعل للفقه والاجتهاد ضوابط تمنعه من الاتجاه نحو الشطط وأخذ عنه الإمام أحمد بن حنبل الذي قال: ما من حامل للقلم إلا وللشافعي دين في رقبته، فكان ابن حنبل من أمراء المؤمنين في الحديث وعلومه. وبعدما ساد التمزق الفكري والسياسي الساحة العربية والإسلامية وتوسد العالم العربي والإسلامي التراث قرونا طويلة ظهرت المملكة العربية السعودية التي التزمت ابتداء بالأخذ بالنصوص وحرفيتها، والسلفية وإيجابياتها فكان ذلك ضمانا لأبنائها من التلوث الفكري الذي يسود كثيرا من المجتمعات الإسلامية والغربية. لقد أخذت المملكة في الانفتاح على الثقافات الأخرى من خلال السياحة والبعثات التعليمية فلم يتمكن الكثير من إجراء الحوار مع العالم المتقدم بسبب الجمود الفكري والحصيلة الثقافية المتواضعة، فأصيب الكثير بالصدمة الحضارية فلم يجد البعض إلا إشهار سلاح التكفير والتعنيف في مواجهة الفكر الذي عجز عن استيعابه، وهذا ما تسبب في وجود فئة من العلمانيين المتطرفين أعرضت عن الفكر الديني وأخذت بالمذاهب الفكرية الغربية بكل ما فيها، وفئة متطرفة في الدين تحمل راية التكفير فتورطت في تنزيه الذات وعبادة الشخصيات، وأصبح الدين مهنة لدى البعض وسلعة لدى الآخرين. في خضم الصراع بين العلمانيين والمتشددين ظهرت فئة من العلماء أخذت بمنهج الاعتدال، كما ظهرت في المقابل مجموعة من الليبراليين تصدت للمتشددين مع أخذها بأسباب الدين، وتمكنت هذه الفئة اليوم من بسط نفوذها على مساحة كبيرة من وسائل الإعلام مدعومة من الإعلام العربي والغربي. إن التقدم التقني الذي صاحب العولمة، والاحتكاك الثقافي بشعوب العالم، دون الحاجة إلى الخروج من المملكة، أدخلنا في تحد جديد، فما كان يقال داخل الحدود لم يعد سرا على العالم، فتعرض الإسلام للهجوم والنقد بسبب جمود الفكر الديني، وتنزيه الذات والنظرة الاستقلالية، إن تفسير النصوص يجب أن يتسع بحيث يتفق مع التطور الذي يعيشه العالم. فعدم الأخذ بروح الشريعة وتطوير المفاهيم للنصوص الشرعية، أوقعنا في صدام مع المجتمعات الأخرى مما لم يمكننا من أداء الرسالة ولابد من تطوير المفاهيم واستيعاب المتغيرات دون الخروج على أسس المقاصد الشرعية وروح الشرعية الإسلامية، فعمر بن الخطاب طور في الأحكام، ولم يقطع يد السارق في عام الرمادة وأخذ القطع في النص القرآني بمعنى المنع وأمر بأن يجرى عليه من مال المسلمين حتى يجد ما يقتات به، وقال للوالي الذي سأله: إن وجدت سارقا ماذا تفعل، قال: أقطع يده، قال له: لكني إن وجدت جائعا لأقطعن عنقك. وهذا يعني أنه لا يمكن قطع يد السارق طالما أنه جائع وأن هذا الحد يجب التحفظ عليه حتى يقضى على ظاهرة الفقر والفقراء.. إننا في حاجة إلى تطوير فكرنا الديني إذا أردنا التقدم والتطور وإبلاغ الرسالة، لا أن نأخذ بأحكام كانت سائدة منذ مئات السنين، فإن تطور الأحكام يتطور بتطور الأزمان وهذا من مبادئ الشريعة وهذه من قواعد الشرع. والله الموفق. * رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والقانونية