وزير الدفاع يبحث مع نظيره البوركيني التطورات    القضية المركزية    توجيه بسحب الأوسمة ممن يفصل من الخدمة    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    السعودية وأميركا.. صفحة علاقات مختلفة ولكنها جديدة    الهلال يتطلع للحسم أمام الأهلي    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    هيئة الشورى تقر إحالة عدد من التقارير والموضوعات    تقويم لائحة الوظائف والنظر في المسارات والفصول الثلاثة.. ماذا تم..؟    ثلاثة آلاف ساعة تطوعية بجمعية الصم بالشرقية    أمير الرياض يحضر افتتاح مؤتمر «المروية العربية»    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    صندوق البيئة يطلق برنامج الحوافز والمنح    البنك السعودي الأول يسجل ملياري ريال سعودي صافي دخل للربع الأول    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الأول للورد والنباتات العطرية    حتى لا نفقد درراً !    رؤية المملكة 2030 في عامها الثامن    القيادة تهنئ ملك هولندا    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    القيادة تهنئ ملك هولندا بذكرى يوم التحرير لبلاده    إبعاد "حكام نخبة أوروبا" عن روشن؟.. القاسم يردّ    شاركني مشاكلك وسنبحث معاً عن الحلول    (800) منتج وفرص استثمار.. الرياض تستضيف أكبر معرض لصناعة الدواجن    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    مهرجان الحريد    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    العوفي يحتفل بزفاف نجله حسن    فلكية جدة : شمس منتصف الليل ظاهرة طبيعية    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    60 طالباً وطالبة يوثقون موسم «الجاكرندا» في «شارع الفن» بأبها    أبها تستضيف أول ملتقى تدريبي للطلاب المشاركين في برنامج الفورمولا 1 في المدارس    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    انطلاق تمرين "الموج الأحمر 7" بالأسطول الغربي    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    وصول التوأم السيامي الفلبيني "أكيزا وعائشة" إلى الرياض    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    على واقع المظاهرات الطلابية.. أمريكا تعلق شحنة أسلحة لإسرائيل    رونالدو يسجل أرقام قياسية بعد الهاتريك    أجواء "غائمة" على أجزاء من 5 مناطق    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    تحت رعاية ولي العهد.. وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل ويشهد حفل التخرج    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إبراهيم عبد المجيد ل عكاظ : أقل ما في العالم يدعو إلى انتحار الكُتّاب
نشر في عكاظ يوم 21 - 05 - 2021

يحتل اسمه مكانةً عاليةً في قائمة الإبداع العربي، وتقديراً شاملاً من كل الأجيال، ولكن على الرغم من كل هذا الضوء المسلَّط عليه، إلا أنه لا يزال متمسكاً بطفولة روحه الإسكندرانية الممزوجة بشغف القاهرة، حيث الحياة لديه تعني حب الحياة وغفران الفن، والكتابة وسيلة للدفاع عن قيم الجمال، والإبداع فضاء رحب ينجح فيه من يغامر في الخوض بعيداً عن مكامن التميز.
الروائي المجيد إبراهيم عبدالمجيد بعد عشرات الروايات والكتب والترجمات، وبعد جوائز عربية كبرى عدة، يفتح ل«عكاظ»، صندوق سيرته من البدايات الأولى وحتى الرواية الأخيرة.. فإلى تفاصيل الحوار:
• حدثنا في البداية عن جذورك الأولى، كيف تتذكر إبراهيم طفلاً ومراهقاً وإسكندرانياً؟
•• في طفولتي وصباي كنا نسكن في حي كرموز أقدم أحياء الإسكندرية. المسافة بين كرموز والبحر لا تستغرق أكثر من نصف ساعة على الأقدام زمان حيث لا زحام، لكنها كانت بالنسبة لنا رحلة، في كل خطوة فيها تتغير أشكال الناس التي تقابلنا، حتى إذا وصلنا إلى محطة الرمل وجدنا رائحة البرفانات والفتيات والفتيان يتهادون على الكورنيش، وكافيتريات لامعة خلفها ناس بيض البشرة يشربون الجعة وعربات الحنطور تمرح بالأحباء. كان أكثرهم من الجاليات الأجنبية وكان بعضهم أيضا يعيش بيننا، فكان هذا أمراً مثيراً للخيال.
رحلتي كل يوم إلى المدرسة وأنا طالب في مدرسة القباري الابتدائية، وكذلك وأنا طالب في مدرسة طاهر بك الإعدادية بحيّ الورديان كنا أحياناً نمر بين السكك الحديدية. كنا نصطاد العصافير أو نذهب إلى أرض خلاء وزراعات بين بحيرة مريوط والسكك الحديدية وكنت أصطاد السمك في الإجازات في بحيرة مريوط.. أماكن عجيبة مدهشة وفضاء متسع وحكايات تجري حولك ولا تتوقف. وما تراه هذا اليوم لا تراه غدا.. عالم من الخيال أنتج روايات مثل المسافات والصياد واليمام وليلة العشق والدم.
كانت أيضا هناك ترعة المحمودية تأتي إليها السفن محملة بالبضائع وتنزلها على الشاطئ، وكنا نلعب الكرة على الشاطئ، ونجلس مع البحارة نسمع قصصاً خرافية عن الرحلة، وكانت هناك أكثر من خمسين سينما، فكانت السينما هي مشوارنا الأسبوعي وأحيانا اليومي. في المدرسة كانت هناك من التلاميذ جماعة للموسيقى وللمسرح وللشعر وللرحلات وغيرها، كما كان بها كل أسبوع حصتان للقراءة الحرة بمكتبة المدرسة فعرفت طريق الأدب والتأليف والمؤلفين. رأيتها مدينة للعالم بها جاليات عديدة متسعة بالخيال ورأيتها وهي تفقد ذلك كله.
جئت إلى القاهرة بروح الإسكندرية
• ما الذي تبقى من الذاكرة في شرايين من اخترقت شرايينه أجواء القاهرة؟
•• بقي ما قلته وأكثر رغم انتقالي إلى القاهرة. مضت أكثر من أربعين سنة بالقاهرة لكن الإسكندرية لم تفارق روحي وحين كتبت عن القاهرة كانت قصصا قصيرة متفرقة، لكن أول رواية عن القاهرة كانت عام 2003 «برج العذراء» ثم 2007 «عتبات البهجة» ثم «هنا القاهرة» عام 2013 وهكذا. أي بعد حوالى أربعين عاما حين رأيت القاهرة أيضا تضيع ولم تعد هي التي أتيت إليها. صارت كالإسكندرية حلماً ضائعاً. مشى معي من الإسكندرية الإحساس بالحرية والرغبة في التجديد في الكتابة الإبداعية وهذا ما أعتبره أهم منجز لأيّ كاتب، ولن أحدثك عن لورانس داريل أو كفافيس أو تسيركاس أو غيرهم من الأجانب الذين غيرت الإسكندرية كتاباتهم لكن تذكر نجيب محفوظ القاهري الذي حين كتب رواية «اللص والكلاب» التي استقى موضوعها من (حادثة سكندرية) عن شخص اسمه محمود أمين سليمان لقبته الصحف بالسفاح ولم يكن كذلك ونسجت حوله الأساطير، تغيرت لغته الكلاسيك وصارت عصرية، حداثية، أكثر تحررا في اللغة، شعرية، شديدة القفزات في الحوار. صارت في الكتابة حرية، بل صارت الكتابة نفسها حرية. طبعا محفوظ كان على دراية بما هو حادث في العالم من تطور في الأشكال الروائية، لكنه أيضا كان يعرف ذلك من قبل وجاءت هذه القفزة التشكيلية مع رواياته السكندرية: (اللص والكلاب) و(الطريق) و(السمان والخريف)، و( ميرامار)، التي عبرت بالرواية العربية كلها إلى أفق حداثي في التشكيل. للإسكندرية نصيب من هذا التحرر عند الكاتب من الأساليب الكلاسيكية، ومن هذه الحرية التي يمارسها الكاتب في الكتابة. وهذا ما مشى ويمشي معي حتى الآن.
حلم يقظة كان بدايتي• ما البداية الحقيقية لك كاتباً؟
•• ككاتب يعرفه الناس كانت البداية عام 1969 حين فازت قصة لي عنوانها «حلم يقظة بعد رحلة القمر» بالجائزة الأولى على مستوى الجمهورية في مسابقة أقامها نادي القصة بالإسكندرية ونشرتها جريدة أخبار اليوم على صفحة كاملة مع مقدمة لمحمود تيمور عنوانها «هذا قصاص موهوب». اتسعت الدنيا حولي وقررت الرحيل عن الإسكندرية لأكون بين صخب القاهرة. استغرق ذلك خمس سنوات كنت أزور فيها القاهرة بين وقت وآخر لأقدم قصة إلى مجلة أو جريدة، أو لأتقاضى المكافأة، وتعرفت على أدباء القاهرة في مقهي ريش. أعجبني صخب القاهرة وكُتَّابها وتعرفت خلال ذلك على أدباء عرب كانوا يفدون إلى القاهرة في زيارات سريعة فانفتحت الدنيا أمامي أكثر. أما البداية التي لا يعرفها أحد فهي البداية الساذجة وأنا طالب في المدرسة الإعدادية والثانوية وكيف أحببتُ الكتابة فصرت أكتب لنفسي قصصا ساذجة طبعا حتى قرأت عن فن الكتابة وتاريخها وتطورت كتابتي وفزت بالجائزة.
• ما الذي تبقى من جاليري 68 في ذاكرتك؟ ومَنْ مِن كتاب المجلة كان الأقرب لك؟
•• كان قربي من كتاب هذه المجلة حين كنت أسافر إلى القاهرة. كان من بينهم بهاء طاهر وإدوارد الخراط ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل ومن النقاد إبراهيم فتحي، وكانت علاقتي بهم جيدة. لكني قررت أن أقطع طريقاً مختلفاً. يظل بهاء طاهر هو أهم من أردت أن أكون مثله وذات مرة نشرت مجلة الهلال في أوائل السبعينات عدداً عن كتاب الستينات كان من بينهم بهاء طاهر ورأيت تاريخ ميلاده وعرفت أنه أكبر مني بعشر سنوات فاطمأن قلبي أن هناك أملاً.
• أصداء مجموعتك الأولى، هل كانت محفزة لك على الاستمرار بقوة في خيار الكتابة؟
•• ستندهش لو قلت لك إن الحافز للاستمرار لم يكن مرتبطاً كثيراً بأصداء أيّ عمل لي، لكنه صار متوحداً معي لا أجد معني للحياة دونه. على العكس القاهرة كانت بالنسبة لسكندري صريح واضح مثلي يمكن أن تصيبني بالإحباط، خاصة أني رأيت غيرة وحروباً من بعض الكتاب المتنفذين في الثقافة من الستينيين لكني كما قلت يوماً كنت أعود إلى البيت استحم وتحت مياه الدُش التي تجري إلى فتحة الصرف ينزل من فوقي كل ما رأيت وسمعت وأخرج نظيفا استمع إلي الموسيقى العالمية وأقرأ أو أكتب. مؤكد أن الاستقبال لأعمالي كان مهماً لكنه تأخر سنوات حتى نشر لي محمود درويش رواية «الصياد واليمام» كاملة في مجلة الكرمل عام 1984 لكن أعظم صدى كان حين نشرت رواية «البلدة الأخرى» في بيروت فصارت الصحف العربية تنشر كل أسبوع أو كل شهر مقالاً عنها منذ عام 1991 حتي جاءت «لا أحد ينام في الإسكندرية» عام 1996 فشغلت الدنيا كل يوم وانفتح الطريق مع الروايتين للترجمة والسفر والجوائز وضاع مجهود الأغبياء في الحرب عليّ. كان من حسن حظي وجود نقاد من جيل سابق على الستينات مثل علي الراعي وشكري عياد وأحمد عباس صالح وصلاح فضل وبدر الديب احتفوا بأعمالي، كما كان هناك في الخارج من هم مثل محمد برادة وفيصل دراج وغيرهم. باختصار الكتابة هي حياتي.• كتبتَ عن الإسكندرية 7 كتب وأكثر، هل ترى أنك سددتَ دينك نحوها؟
•• لم يكن هناك دَيْنٌ. لكنها كانت تمشي معي ممتزجة بروحي ومن الصعب الفصل بيننا. احتجت ربع قرن حتى أكتب عن غيرها ولم يتم ذلك بشكل حاسم فحتى الآن تجد أبطالاً من الإسكندرية في روايات أخرى مثل بطل رواية «البلدة الأخرى» فهو سكندري الأصل وهي أول رواية أكتبها بعيدا عن الإسكندرية، وفي رواية «أداجيو» أبطالها من القاهرة لكن الأحداث في الإسكندرية وهكذا. صار الماضي هو حاضري وأخيراً صرت لا أسافر إلا نادراً حتى لا أشعر بالفقد أكثر. روحي تشعر بما قاله نادر بطل الإسكندرية في غيمة من شعر منثور آخر الرواية بعد أن فقد حبيبته وتغيرت المدينة «قال لي يرحل الناس وتبقى المدن. قلت له ماذا يبقى للناس إذا رحلت المدن؟»
أصدقاء العمر يتناقصون• الكاتب مجموعة تجارب وأصدقاء، فمن هم أصدقاء عمرك؟
•• للأسف كثير منهم رحلوا. من بين الأدباء الراحلين طبعا أمل دنقل وعبدالرحمن أبو عوف وسعيد الكفراوي والدكتور شاكر عبدالحميد ومحمد كشيك على سبيل المثال، ومن الناس خارج الأدباء والمثقفين أعداد كبيرة تتناقص كل يوم ولم يبقَ منهم غير الآحاد. يتبقى من الأدباء جار النبي الحلو والمنسي قنديل والشاعر فريد أبو سعدة وعبده جبير ومحمود الورداني، فضلا عن كاتبات مثل سلوى بكر وسهير فهمي أطال الله في أعمار الجميع ومنحهم الصحة.
• ما العمل الذي لو أتيحت لك فرصة كتابته لكتبته مرة أخرى، ولكن بشكل مختلف؟
•• لا أظن أني أفكر أو فكرت في ذلك. تنتهي علاقتي بالعمل بعد نشره. أعرف مقدما أنه لا عمل يحظى برضاء الجميع. القراء أنواع والقراءة يتغير ميزانها مع الزمن. يمكن لعمل ما أن لا يجد حقه من الحفاوة أن يجد الحفاوة في زمن آخر. أنا مشغول بما أكتب الآن لا بما كتبت من قبل.
• هل «البلدة الأخرى» وفيّة للإبداع أم للذاكرة؟
•• أعتقد أنها وفيّة للإبداع أكثر، فمثل أي رواية كان فيها من الخيال أكثر مما فيها من الحقائق، وأكثر مما فيها من الواقع. هي رواية كتبها المكان أكثر من أيْ شيء آخر. أول جملة فيها «انفتح باب الطائرة فرأيت الصمت» شاعت هذه الجملة وتم ويتم الاحتفاء بها، وكان همي أن تكون اللغة صامتة هكذا كما أرى الفضاء والأحداث كلها ساكنة حولي. لغة بلا أيّة تشبيهات انفعالية وهذا جهد فني كبير.
شعري البدائي خارج الأوزان• كل كاتب كان في البداية مشروع شاعر، هل مررت بهذه المرحلة؟
•• طبعاً في سن الرابعة والخامسة عشر وكان شيئاً مضحكاً احتفظت ببعضه في أجندة قديمة. وجدت أنه من الواجب القراءة في العروض مثلاً وقرأت ولم أستطع الاستمرار إذ كنت أشعر بنفسي أفكر في الوزن وأنا أكتب. أيْ أخرج من الحالة الشعورية. قلت لا. خليني بعيد، للشعر أهله. في العشرين سنة الأخيرة ظهرت ثلاث مرات تقريباً شخصية شاعر في رواياتي. «طيور العنبر» مثلا أو «الإسكندرية في غيمة» أو «قبل أن أنسي أني كنت هنا». لكن أنقذتني قصيدة النثر فكتبت ما يمكن اعتباره شعراً منثوراً.
• ما العمل الذي تمنيت أن تكون أنت من كتبه؟
•• ستندهش إذا قلت لك أنه عمل صغير جدا هو رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» لمالك حداد بترجمة ذوقان قرقوط. فُتنت بصغرها وتأثيرها الكبير في روحي. بعدها كتبت رواية في الحجم نفسه تقريبا هي «بيت الياسمين» تختلف طبعاً في موضوعها وناسها فهي رواية ساخرة وليست رواية مآسٍ، لكن جعلتها محكمة بقدر ما أستطيع رغم أن بها شخوصاً وأحداثاً كان يمكن أن تتسع. كانت معركتي معها أن لا تكون كبيرة وليس فيها كلمة زائدة وكتبتها وراجعتها إحدى عشرة مرة من أجل ذلك. وكنت أرى أمامي رواية «ليس في رصيف الأزهار من يجيب» وأنا أكتبها وحتى الآن كلما زرت باريس مشيت في شارع رصيف الأزهار رغم أني نسيت مع الزمن أحداث الرواية.
• تجربتك في الترجمة شحيحة جداً ولكنها مميزة، كيف قادتك المصائر لذاكرة الشعوب؟
•• منذ أيام الشباب وأنا أقرأ بالإنجليزية، وجعلت عروض الكتب الأجنبية طريقي إلى المجلات والصحف العربية. ترجمت بعض الكتب نشرتها فصولاً في صحف مختلفة ولم يكن هناك إنترنت. كانت معظم الصحف العربية في السبعينات لا تدخل مصر، وكان الكتاب الواحد يتوزع على أكثر من صحيفة ومجلة فصولا متفرقة. للأسف ما احتفظت به منها ضاع مع التنقل في الزمن من مكان إلى مكان ومع طيش الشباب ونسيت طبعا مواعيد النشر. كتاب واحد لم أنشره مُوزَّعا هو «مذكرات عبد أميركي» وكان اقتراحا من المرحومة رضوي عاشور بل هي من أعطتني نسخة من الكتاب. نشرته كتابا مباشرة في مؤسسة الأبحاث العربية عام 1988 في بيروت، ثم نشرته في مصر بعد ذلك في دار الشروق ثم أخيرا في بيت الياسمين للنشر. كالعادة بعد أن أنتهي من رواية التفت إلى العالم حولي أراه كئيبا فيصيبني. زمان كان الخروج والسهر هو حبل النجاة. الآن لا أستطيع إلا الخروج إلى مقهي قريب من البيت أتناول القهوة. فكرت في الانشغال بترجمة كتاب. سألت الصديقة الناشطة الأثرية سالي سليمان فاقترحت علىّ الكتاب. وجدته على الإنترنت لأنه متاح ولا حقوق ملكية له، فلقد نشر أول مرة في القرن التاسع عشر وصاحبته توفيت عام 1869. قرأت عنها الكثير وعن الكتاب فأخذني جداً وسيطر عليّ وشرعت في ترجمته وخرجت من كهف الاكتئاب. الآن أفكر في ترجمة كتاب ثالث ليكون لي ثلاثة لكن الرواية التي أكتبها تجعلني أنسى. وأحياناً أضحك وأقول وما الفرق بين ثلاثة واثنين. هي نزوات بالنسبة لي لا حرفة قررتها. الدنيا مليانة مترجمين والحمد لله.
الحب حياة والفن غفران
• هل كتبت عن المرأة كما كانت فعلاً في ذاكرتك وحياتك؟
•• أنا عشت وترعرعت كما يقولون في أحياء شعبية كنت أرى فيها أكثر الفتيات والنساء مقهورات من الرجال. ترى ذلك مجسدا جدا في رواية مثل «طيور العنبر».
من هنا بدأ ميلي إلى تقدير المرأة. من ناحية أخرى الحب حياة والفقد إيقاظ للحب الضائع. حتي لو كان في الفقد غُبن وظلم لي فعند الكتابة الفن لا يعرف الانتقام. الفن غُفران. فما بالك حين يكون الفقد بعد حب حقيقي أو حياة حقيقة ورفقة عظيمة. هنا يتجسد الحب في كل سطور الرواية رغم حزن الفقد. كما أن روايات مثل «أنا كارنينا» أو «مدام بوفاري» أضافت لي حباً للمرأة كبيراً جداً أو ثلاثية نجيب محفوظ التي جعل فيها عائشة التي مات زوجها وأولادها تجسيداً للعذاب الأبدي. وأفلام مثل «صانعة الدانتيلا» لإيزابيل أوبير، و«روعة على العشب» لنتالي وود ووارن بيتي أو حتي «ذهب مع الريح» وغيرها جعلت للمرأة مكانة روحية عظيمة عندي. الذي يكتب الحب في رأيي أفضل هو من عرفه وضاع منه. ومن ثم مهما رأيت من قسوة النساء حولي والحمد لله لم أر كثيرا، فاعتقادي أن الفن غُفران وليس انتقاماً.
• ما روايتك الجديدة؟
•• هي رواية خروج كبير من السجن لأبطال تم سجنهم بلا قضية، وهل يمكن أن يجدوا العالم متسعاً حقاً، أم هو زنزانة أخرى، وما الحل في هذا الشعور بالقيد. محاولة للتغلب على ذلك أو عدم اقتناع به من الأساس فالعالم أرحب من أي قيود المهم كيف؟. البعض يفعل ذلك بالتقدم في الحياة، لكن مشكلته أن كل من يقابلهم يذكرونه بأيام السجن خاصة أنه بعد الإفراج عنه بدأ الإفراج عن بعض من كانوا معه فالتقى بهم في صدف غريبة وهم أشخاص مظلومون في الأصل، بينهم شخصيات عجيبة مثل الذي أنفق عمره يتحدث مع النباتات، والذي وقف يضحك في ميدان التحرير وحده فكلفه الضحك الكثير، والذي يمشي في الميادين ليلاً يسمع أصوات من كانوا بها في النهار، والبطل نفسه كان ضحية جلوس على المقهى يشرب الشيشة وقريباً منه أمام جامع أُتهم بالإرهاب وظهرت صوره فى ليبيا مع داعش. النساء أغرب وأعجب بينهن من أقنعها زوجها السلفي أنها جنّيه وليست إنسية وتنقبت، لكنها في لحظة تصرفت كالجن وتركت له البلاد مع عشيق مجنون مثلها برغبة الفرار بلا قضية أصلاً. الجميع يبحثون عن النسيان بالسلب أو بالإيجاب حتى لما اقتنعوا به من أفكار فلسفية وسياسية ودينية. الجميع غرباء في الزمان والمكان ومن ثم فعنوانها «الهروب من الذاكرة» وهي في ثلاثة أجزاء. ليست انصياعاً لمشاعر المسجون لكن تمرداً عليها وسط حياة حقيقية لا تبتعد عنها أبداً.
«شهد القلعة» ظُلمت كثيراً
• ما العمل الذي ترى أنه ظلم في تلقيه لك؟ وما العمل الذي فاجأك ذيوعه وانتشاره وتحمّس القراء له؟
•• قبل الميديا كنت أعتبر الفوز بالمقالات مريحاً، لكن بعد الميديا أرى إعجاباً كبيراً بروايات لم تأخذ حقها من قراء لا أعرفهم، وهذا يؤكد لي أنه لا قانون حاسم في تلقي الأعمال، وفي النهاية ليست أعمال كل كاتب محل إعجاب دائم. أحياناً أفكر أن نوفيللا مثل «قناديل البحر» أو توفيلا مثل «شهد القلعة» لم تأخذ حقها، أتذكر أن شهد القلعة نشرت في دار نشر صغيرة منذ 15 سنة وأنا نسيت أن أعيد طبعها مثلاً وأن قناديل البحر تحولت إلى مسلسل تلفزيوني لكن المخرج غيّر في الأحداث فلم ينجح على الرغم من أن بطلته كانت أثار الحكيم. لكن ماذا أفعل. لن أقف عند ذلك. أنا أكتب وتستمر الحياة.
• هل افتقدت الساحة سلسلة «مختارات فصول»؟
•• هناك الآن سلسلة «كتابات جديدة» التي كنت أنا أول رئيس تحرير لها في النصف الثاني من التسعينات وتركتها بعد أربع سنوات ومازالت مستمرة. هناك أكثر من سلسلة في أكثر من مؤسسة ثقافية. لا أعتقد أننا افتقدناها لأن هناك غيرها. أنا لا أعرف لماذا توقفت مختارات فصول أصلاً فحين تم تأسيس كتابات جديدة كانت مختارات فصول موجودة ولا أعرف متى توقفت.
• أخيراً، كيف ترى المشهد الثقافي المصري والعربي؟
•• لستُ متابعاً جيداً للمشهد الثقافي المصري والعربي. مؤكد بحكم السن وبحكم الانشغال بالكتابة وبحكم الملل والعادة وإحساسي بأن أهم ما أفعله أن أنعم بالوقت القليل الباقي لي في الحياة. لكني أرى الحياة العربية مليئة بالإبداع الجيد والجميل في الرواية بالذات وبالدراسات النقدية والمعارك المسلية حول الجوائز وغيرها. المهم أنه على الرغم من كل كوارث عالمنا العربي يتصدر الإبداع المشهد ولا يستسلم الكُتَّاب لليأس، وهذا هو ما أراه حولي والحمد لله. نحن في عالم أقل ما فيه يدعو إلى انتحار الكُتّاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.