لو لم تنخل الشظايا جسد النحيل «هاني الملا» لاتجهت به الحياة لطرق أخرى، وربما لنهايات مأساوية. تودي بريعان الشاب الذي نشأ في أسرة واعية ومنفتحة على الحياة. لم يكن بطل رواية (الأسير الصغير) - تحت الطبع- يتخيل أن الخطاب الصحوي سيأخذه إلى بلدان جليدية، ويدفعه إلى مجاهل الموت، إلا أنها الاستجابة اللاشعورية لطموحات وحماسة يافع غرس الصحويون في ذهنه فكرة «الجهاد» وإعلاء راية الإسلام. يؤكد المُلا أن التغذية بأطروحات مشبعة بالكراهية وثقافة الموت والانتقام وإضفاء سوداوية على المستقبل أضفى عليه هالة من جلد الذات وكونه مقصراً في نصرة الدين، وحمّل الشريط الإسلامي والمخيمات والرموز الدعوية مسؤولية تمرده على أسرته وأهله واختياره طريق القتال ضد الروس، خصوصاً عندما التقى بالعائدين من القتال ممن يروون له حكايات وبطولات، وعزا الدوافع إلى محفزات داخلية وخارجية. ويرى أنه شعر أن الذهاب للقتال فيه خلاص من تبعات الدنيا، وفوز بالدار الآخرة كون هناك من يزيّن له الأمر ويرسم له ختام المشهد بالموت في سبيل الله خصوصاً إثر تشويه المجتمع الذي تسبب في انفصاله عن الواقع، والدخول في حالة غربة، ما يدفعه إلى البحث عن أقرانه ممن لهم الميول ذاتها. وقسم المؤثرين إلى واقعيين منهم معلمون وموجهون، وافتراضيين منهم رموز القتال في البوسنة وأفغانستان. وكشف أنه تأثر بالفكرة الصحوية في المرحلة المتوسطة، من خلال أقاصيص البطولات في المراكز الصيفية، واستجاب للخطاب المستدر لعاطفته والملهب لحماسته والمدغدغ لمشاعره. ولفت إلى أن القرب من مواقع الاحتراب ومراكز القوى في مناطق الصراع كشف له أن هناك خطابات استهلاكية للأتباع، فيما هناك طرح نخبوي للرموز الطامحة لتحقيق مكاسب سياسية للأحزاب وتحقيق مخططات وأهداف لقوى معلنة وخفية. تناولت الرواية موقع التمركز جنوب الشيشان، فيما الشمال المنبسط، يخضع لسيطرة الحكومة الشيشانية الموالية لموسكو، وتضم الكتيبة العربية التي التحق بها 120 مقاتلاً، وتتشكل من 6 مجموعات مقاتلة، كل واحدة قوامها 20 مقاتلا، يتبع كل منها لقائد له خبرة قتالية، ويتردد على المعسكر باستمرار مجموعة من المهربين الذين يقومون بإيصال المقاتلين والمؤن والأموال من مضافة أذربيجان المركزية في العاصمة باكو، التي يترك العرب فيها جوازات سفرهم. عَلِقتْ معركة (آرغون) في مخيلته عندما قرر قائد الكتيبة (خطاب) نقل المعركة إلى خلف خطوط العدو. بدأت الاستعدادات لشن عملية خاطفة داخل معسكرات الروس، وتم التنسيق مع القادة الميدانيين من الكتائب الشيشانية وعددها 18 كتيبة بقيادات شيشانية مختلفة، وتضمنت الخطة شن كل كتيبة غارة منظمة على نقطة محددة من نقاط العدو، وكان نصيب الكتيبة العربية، مباغتة معسكر آرغون الروسي. المبني من قرميد أحمر غير مكتمل، وتحوطه الخنادق المتعرجة، وتجثم على جانبي البيت مدرعتان تحملان رشاشات من العيار الثقيل من نوع (دوشكا)، ومن خلف البيت خيمتان كانتا تستخدمان لتبديل ورديات الحراسة والاستراحة. وبعد الترصد، تبين أن قوة هذا المركز تتكون من 34 جندياً روسياً، يزيدون أو ينقصون. أما المفاجأة التي قلبت الموازين فكانت كامنة تحت الأرض، انكشفت لهم في خضم المعركة. إذ إثر توزيع المقاتلين في 6 كتائب تتكون من حاملي الرشاشات الخفيفة مثل الكلاشنكوف والكالكوف والمدافع المضادة للدروع المحمولة يدوياً، آر بي جي والموخا والرشاشات الثقيلة كالبيكة، وتسندها فرقة إسعاف على أن يكون مقرها في مبنى صغير في الغابة الخلفية للمصانع. كان الملا في الكتيبة السادسة ولصغر سنه حمل رشاشاً خفيفاً من نوع كالكوف، و6 مخازن ذخيرة، وبرفقته أحد المقاتلين المصريين يكنى بأبي بكر. وتحرك الجميع بحذر شديد نحو مواقعهم واختبأ جانب أبي بكر، خلف جدار مفرد في انتظار ساعة المعركة، وكان الجو هادئاً قبيل الغروب، فتسلل صوت متقطع في الجهاز (الله أكبر الله أكبر) وبدأ الهجوم في لحظة واحدة وسكبت 120 فوهة الحمم النارية على معسكر الروس، واستمر إطلاق النار 3 دقائق، ثم حصل ما لم يكن بالحسبان. انطلقت من وراء المنزل الأحمر 72 دبابة عسكرية، ووجهت الدبابات فوهاتها نحو المصنع وفي مشهد مريع بدأت الأرض ترتج من القذائف التي أحالت المشهد إلى مزيج من النار والغبار، تخترقه انفجارات متوالية تصم الآذان. وغدا الجميع أهدافاً واضحة، ولم يستطع أحد منهم سماع صوت رفاقه المتراكضين. بين تلك الفوضى العارمة فأطلق أبوبكر قذيفتين من مدفعه وأعطاه المدفع كي يطلق القذيفة الثالثة، فلمع ضوء بجانبه، ورأى برقاً قوياً خاطفاً، تلاه صوت انفجار، وكان آخر عهده بصاحبه. هوى على قفاه مغشياً عليه. وارتطم رأسه بأرض خرسانية وانفتحت عليه أعيرة رشاشات من جهات مختلفة، اعتقد أنها مزقت جسده كله من كثافة النار. وتمكن رفيقه من سحبه، فدخل في غيبوبة ونزيف حاد لم يوقظه إلا قذيفة دبابة اخترقت الجدار من فوقه، فوقف وسقط مرات عدة، واصل المسير وتقدم حتى مشارف الغابة، مقترباً من البيت المعد لفريق الإسعاف، عندما رأى أحدهم نادى عليه وسقط غائباً عن الوعي. توزعت الشظايا على جسده النحيل، 3 منها استقرت في الرقبة، محدثة جروحاً عميقة أثرت في الفقرات، وتحتاج إلى عناية طبية ليست متوفرة في المعسكر. بدأت نية العودة للوطن. ومع المهربين وقعت أحداث مرعبة. هناك مطاردة فألقى بنفسه في النهر. وبلغة روسية صارمة، أمره الجنود بأن يستلقي على وجهه أرضاً. اقترب أحد الجنود وفك الشال من حول عنقه وقيد يده إلى الخلف، شعر لوهلة أن هناك من باعه ليس المهرب فقط، بل قوة كان يعول عليها في كل أمره. وفي الطريق بدأت السيناريوهات تتوالى وتنافس بعضها، في مركز الشرطة استقبله جندي بضربة بمؤخرة سلاحه في بطنه وثانية على جنبه وثالثة على ظهره وأدخله غرفة معدة مسبقاً، فيها طاولة اجتماعات وحولها 7 رجال بملابس مدنية، وجميعهم يرتدون المعاطف الطويلة، وعند تفتيشه وخلع ملابسه نطق بالروسية - (نيلزا) مجرم بالروسية فضحك الجميع، ورد كبيرهم: باتشيمو؟ أي لماذا؟. أسكنوه زنزانة محفورة في الصخور، تحت الأرض، مظلمة ورطبة، لا يوجد لها باب وبها سطلان، أحدهما فارغ للتبول، وآخر به ماء. دخل العسكري ومعه صحن فيه سمكة يتيمة ونيئة، وضعها ومضى، لم يحاول سؤاله إن كانت للأكل أم سجينة. استطاع نزع الجلد عن اللحم الأبيض الذي استقر غصبا في معدته، لتبدأ صداقة طويلة بينه وبين الجوع. في لحظة انتابه شعور غريب، كأن مفتاح المشاعر والأحاسيس انتقل من وضعية التشغيل إلى وضعية الغلق، لم يعد يحس بالخوف أو بالحزن أو الغضب، كانت حالة من الحياد الكلي. موجة غامضة ولدها الندم، بدأت تساؤلات لم يعهدها، وخامره التشكيك في كل أفكاره التي قادته إلى هذا السجن. (الجهاد، آراء العلماء الأشرطة، الكتيبات، القصص) تساءل مع نفسه: هل كنت على حق أم كان وهماً؟ لماذا لم ننتصر في المعركة؟ استشعر الخديعة ثم غطس في نوم عميق.