في مقالٍ سابق عنوانه «صباح الحلم.. يا صديقي»، بَدَوْتُ وكأني خارج للتوّ من مصحة عقلية، وبتعبير آخر: بَدَوتُ متفائلا. فالتفاؤل،كما يرى الكاتب البريطاني هافلوك إليز، لا ينمو ويعشّش إلا في مستشفى الأمراض العقلية! كان المقال يرشح تفاؤلا بِغَدٍ أجمل، فهو رهان على الغد، وإذا كان الحاضر هو العصفور الذي في اليد، فإن انتظار الغد رهان على العصافير العشرة التي على الشجرة. لذلك اختتمت المقال بقول بشار بن برد: «نرجو غداً، وغدٌ كحاملةٍ في الحيّ لا يدرون ما تلدُ»! وقد ذهبت تعليقات القراء التي تناولت ذلك المقال ما ذهب إليه بشار بن برد. بعض الكتاب يخافون أيضا، لكن خوفهم لا يشبه خوف التاجر، بل يشبه الخوف الذي أشار إليه علاء طاهر في كتابه (الخوف من الكتابة) حيث تناول فيه قلق أو خوف مجموعة من الكتاب المبدعين المؤثرين من أن «تغدو اللغة عاجزة عن التعبير عما هو مُدرَك من رؤى لا تستوعبها الكلمات» وفي تعليق على رابط المقال على الفيسبوك قال أحدهم: «وغدا يا صديقي.. سينسى الناس هذه المقالة، وقلة من الناس ستتذكرها»! وأنا أتفق مع ذلك التوقع، بل قد أذهب إلى أبعد من ذلك، فأرى أن عبارة: «وقلة من الناس ستتذكرها» هي أيضا أمنية نابضة بالتفاؤل. مثل هذا التعليق الواقعي يفتح باب السؤال حول (الجدوى) على مصراعيه. ما الجدوى إذا كان الأمر لا يعدو كونه صرخةً في واد ونفخةً في رماد؟ وإذا كان لدي ما أضيفه في هذا الشأن، فهو أن الكاتب لا ينظر إلى موضوع (الجدوى) كما ينظر التاجر، فلكل منهما طريقته في النظر إلى الأشياء. عندما يطرح التاجر سؤال (الجدوى) فهو يتطلع إلى ما سيحققه من أرباح، وهو يخشى المجازفة التي تقود إلى الخسارة، ف «رأس المال جبان» كما يقال. لذلك يميل إلى إرضاء ذائقة أكبر عدد من المستهلكين، مثله مثل مخرج الأفلام التجارية الذي يراهن على رفع مستوى الدخل، بدلا من مستوى الوعي، ولتذهب القيمة الفنية، وليذهب الوعي والتنوير «إلى حيث ألقتْ رحلَها أمُّ قَشْعَمِِ»! بعض الكتاب يخافون أيضا، لكن خوفهم لا يشبه خوف التاجر، بل يشبه الخوف الذي أشار إليه علاء طاهر في كتابه (الخوف من الكتابة) حيث تناول فيه قلق أو خوف مجموعة من الكتاب المبدعين المؤثرين من أن «تغدو اللغة عاجزة عن التعبير عما هو مُدرَك من رؤى لا تستوعبها الكلمات»، وتلك الفئة من الكتاب لا تسأل عن الجدوى. وإذا استثنيتَ الكاتبَ/الموظف، والكاتبَ (العرضحالجي)، والكاتبَ الممالئ الذي ينطلق من مبدأ «القارئ عاوز كده»، فإن الكاتب خارج دائرة ذلك المزاد الكبير أقرب إلى الخسارة؛ خسارة كل شيء إلا نفسه، وهذا هو الأهم. أعود إلى التعليق الذي بدأت به هذه الكتابة: «وغدا يا صديقي.. سينسى الناس هذه المقالة، وقلة من الناس ستتذكرها»! فأقول: هذا احتمال وارد. لكن لو استسلم المرء لهذا الشعور بالعبث لما تقدم خطوة إلى الأمام. قد يحزن المرء ويتألم لما يجري هنا أو هناك، حيث «المياه جميعها بلون الغرق» كما يعبر سيوران، لكن الحزن شيء والشعور بانعدام الجدوى شيء آخر. وفي هذا السياق يمكن اقتباس عبارة البير كامو القائلة: «إن التخلص من الأمل ضرب من المحال»، وقد لاحظ كامو امتناع التخلص من الأمل حتى على أولئك الذين أرادوا الخلاص منه. فكان الحلم، أو النظر إلى الجانب المشرق من الأشياء، أو ترقب الضوء في نهاية النفق، هو ما يحمي المرء من الوقوع في فخ الشعور بعدم الجدوى. وقد قيل: لم يربح اليأس معركة قط. [email protected]