عندما نتحدث عن (المنزل العصري) في مجتمعاتنا الخليجية على وجه الخصوص تتبادر إلى الأذهان وللوهلة الأولى بعض الصور الحالمة عن شكل ومكونات هذا المنزل، وهذه الصور مرتبطة بشكل أو بآخر بالفخامة والضخامة والرفاهية والجمال والأثاث الوثير والتجهيزات العصرية الحديثة، ولعل ما يزيد من إشكالية هذا التعريف أن تعبير (المنزل العصري) مرتبط لغوياً بتقدم تكنولوجيا العصر وربما بتقليعات وصرعات العصر، وبما أن عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي لا تتوقف وإنما تزداد وتيرتها سرعة وكذلك التغير في الأنماط المعيشية والسلوكية فسيبقى مفهوم ( المنزل العصري) حاضراً في أذهان الناس في كل زمان ومكان دون أن تتشكل له صورة ثابتة، لقد أدى هذا الوضع إلى ظهور صور متباينة ومواصفات ضبابية معتمة لمفهوم ( المنزل العصري) وهي صور ومواصفات تغلب عليها الأحلام والنزعات والأهواء والنظرات القاصرة، فقد تشكلت في أذهاننا بعض المفاهيم المتباينة عن حقيقة المنزل العصري الذي ينظر إليه من قبل بعض الفئات كمنزل ( فنتازي) حديث ومتحرر من الطرز المحلية، وآخرون يجزمون بأنه ليس سوى المنزل الفاخر الضخم الجميل المؤثث بقائمة عريضة من التجهيزات والديكورات، وقد شاع في بعض المجتمعات المتقدمة مفهوم المنزل الرقمي أو المنزل الإلكتروني الذي يستفيد من تقنيات العصر في مجال المعلومات والاتصالات، وهذه جميعها صور متضاربة لمفهوم المنزل الذي ربطناه بمؤخرة ( قطار العصر المنطلق) دون أن نتحقق من وجهة هذا القطار الذي قد يقودنا إلى عالم مظلم يخيم عليه المرض والتلوث وشح الموارد الطبيعية. في المجتمعات الغربية المتقدمة تم إلى حد بعيد تجاوز هذا المفهوم الضيق للمنزل العصري المرتبط بالرفاهية والفخامة والجمال، فقد أصبح الحديث عن المنازل في تلك المجتمعات يتركز حول تحقيق قدر متوازن من الرفاهية والفخامة والجمال في إطار المعايير البيئية والصحية والاقتصادية، وهذا التقدم الفكري- الثقافي الكبير في مفاهيم تلك المجتمعات المتحضرة تجاه المنزل العصري مرده إلى ارتفاع مستوى الوعي البيئي وانتشار وشيوع أمراض المنازل بالإضافة للضائقة الاقتصادية التي تمر بها تلك المجتمعات في السنوات الأخيرة، ونتيجة لهذه التحديات البيئية والصحية والاقتصادية التي تواجه المساكن فقد ظهرت حركات فكرية وطرز معمارية جديدة حاولت أن تحقق التوازن والتكامل بين المتطلبات الإنسانية من جهة والجوانب البيئية والصحية والاقتصادية من جهة أخرى، بل أن الشيء المثير حقاً أن الجوانب البيئية والصحية أصبحت بالفعل من ضمن أولويات أولئك السكان ولا تقل أهمية عن الجوانب الاقتصادية وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من متطلباتهم المعيشية، وهنا تبرز القيمة الحقيقية عندما يصبح منزلي مثالاً يحتذى ويعكس في نفس الوقت ثقافتي الشخصية ورؤيتي الراقية لمعنى السكن وقيمة الحياة الصحية الهانئة والبيئة السليمة.أن البيئة والصحة والاقتصاد كعناصر مترابطة تعد من أبرز سمات هذا العصر الذي نعيش فيه وهي في ذات الوقت العناصر الأساسية لحياة الإنسان، وإذا كان هذا العصر هو عصر الأزمات والتحديات البيئية وعصر تفشي عدد كبير من الأمراض والأوبئة ذات الصلة بالبيئة الداخلية للمباني وعصر أزمة المساكن الناجمة عن ارتفاع تكاليف البناء فإن ( المنزل العصري الحقيقي) يجب أن يستجيب وبشكل مباشر لجميع هذه التحديات بحيث يكون منزلا بيئيا صحيا اقتصاديا، بحيث يعكس هذا المنزل مسئوليته تجاه حماية البيئة من التلوث والحفاظ على الطاقة والمياه والمواد وفي نفس الوقت يوفر بيئة صحية آمنة لقاطنية، وأن تكون مساهمة هذه المنازل في حماية الطبيعة وتوفير البيئة الصحية الملائمة للساكنين مقرونة بانخفاض تكاليف البناء والتشغيل والصيانة التي أصبحت عائقاً كبيرا يحول دون حصول كثير من الأسر على مساكن خاصة من فئة ذوي الدخل المنخفض، أن المنزل الذي يتطلبه العصر الذي نعيش فيه يتطلب أن يحقق توازناً بين الثلاثة عناصر وهي البيئة والصحة والاقتصاد، وهي كما أسلفنا عناصر مترابطة ومتكاملة وذات تأثيرات متبادلة فالحفاظ على البيئة من خلال تقليل هدر الموارد كالمواد والطاقة والمياه سيؤدي إلى تقليص إصدار الملوثات وسيعزز من سلامة الساكنين ويقود في نفس الوقت لوفر اقتصادي كبير سواء في التكاليف الأولية للبناء أو في تكاليف التشغيل والصيانة. كما أن الحفاظ على الكهرباء سيقود من الناحية الاقتصادية لتحقيق وفر مالي كبير وهو في ذات الوقت يقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأكسيد النيتروز ( الغاز المضحك) وجميعها غازات ضارة وتتسبب في مخاطر جسيمة تهدد صحة الإنسان داخل المنازل وهذه أمثلة بسيطة على العلاقة القوية والتأثيرات المتبادلة بين البيئة والصحة والاقتصاد. يبدو أن مشكلة المنزل العصري لدينا متأصلة وذات أبعاد اجتماعية فقد أصبح المنزل الفاخر الوثير أحد أبرز المظاهر الاجتماعية، كما أصبح لدينا شكل نمطي متكرر للمنازل يتكون من عناصر ثابتة بغض النظر عن حجم الأسرة واحتياجاتها ومطالبها. فما يلاحظ على منازلنا في منطقة الخليج بالذات أنها ذات تكاليف مرتفعة، وارتفاع التكاليف هذا مع الأسف لا يعكس أي ارتفاع في كفاءة الأداء الوظيفي لتلك المنازل، ولذلك فإن التكاليف العالية مقرونة في نفس الوقت بأداء وظيفي متدن وهذا أمر طبيعي نتيجة للهدر الكبير في مساحات وأحجام مساكننا والمبالغات الواضحة في الجوانب الجمالية، ربما لا نحتاج إلى إجراء دراسات هندسة قيمية لرفع درجة الأداء الوظيفي في مساكننا وتقليص التكاليف غير الضرورية، ولكننا حتماً نحتاج إلى التفكير بأسلوب الهندسة القيمية وهذا أمر بسيط وفي متناول الجميع، أولاً يجب أن نتخلص من كثير من المفاهيم الخاطئة عندما نشرع ببناء منازلنا، فالفخامة والرحابة والجمال لا تعكس بالضرورة كفاءة الأداء الوظيفي وإنما على العكس من ذلك، فإذا كانت حاجتي الحقيقية هي غرفة معيشة واحدة بمساحة عشرين متراً مربعاً وبارتفاع طابق واحد فإنني عندما أجعلها بمساحة أربعين متراً مربعاً وبارتفاع طابقين فإن تكاليف البناء الأولية ستزداد وتكاليف التشغيل كالتأثيث والتكييف والإضاءة ستزداد، وليس هذا فحسب بل ان الأداء الوظيفي لهذه الغرفة سيتناقص نتيجة للهدر الكبير في المساحة المخصصة لها بالإضافة إلى صعوبة التحكم في درجة الحراراة بداخلها، وهذا الأداء الوظيفي المتدني سيكون له تأثير سلبي كبير على راحة وصحة المستخدمين لهذه الغرفة. في الختام لابد من التأكيد على المسئولية الكبيرة الملقاة على عاتق المهندسين المعماريين على وجه الخصوص لكونهم أصحاب القرار الرئيسيين في تصميم المساكن وصناعة البناء، فهم مطالبون في المقام الأول من منطلق وطني وبيئي بفهم وتبني فكرة المباني الاقتصادية البيئية الصحية فالاقتصاد لم يعد مناقضاً للبيئة والصحة كما كان من قبل بل أصبح قريناً لهما فيما يعرف بالتنمية المستديمة، لقد آن الأوان أن يتم العمل الجاد وفق برنامج وطني على تثقيف وتوعية المكاتب الهندسية والمواطنين والمقاولين وعامة الناس واطلاعهم على التأثيرات البيئية للمباني وارتباطها الوثيق بالصعوبات الاقتصادية للبناء، مع إيضاح الوسائل والسبل الكفيلة بتقليصها والحد منها قدر الإمكان للمساهمة الفعلية في حماية البيئة والحفاظ على صحة الإنسان وفي نفس الوقت إيجاد المسكن الاقتصادي المستديم. بداية التحول إلى المسكن العصري