يقولون: التاريخ الإسلامي نهض نهضة واحدة ثم تغيرت فجأة كما وُجِدت فجأة؛ فمن بعد استشهاد الخليفة الراشد، عثمان بن عفان، أصبح الأمر فوضى في السياسة الإسلامية، سواء أكان ذلك في تاريخ وجود علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أم بعد ذلك في عصر الدولة الأموية ثم العباسية، ثم تفترق الدول أشتاتًا وتحترب فيما بينها احترابًا عظيمًا لا تفلت منه بقعة من الأرض ولا عصر من العصور؛ وحتى في أحوال الاستقرار كانت تُشْبَعُ الأمةُ من جور الظلمة الذين لا يشبعون ظلمًا وجورًا؛ هكذا هي صورة التاريخ الإسلامي عند كثير من الشباب، وللأسف أقول: والشيبِ أيضا. ولعل المؤرخين المسلمين كانوا من أسباب ذلك، حيث إنهم كانوا يكتبون التأريخ وفق السنوات، كما فعل ابن جرير ومن نحا نحوه، أو وفق الأحداث والدول، كما فعل المسعودي وابن خلدون ومن نحا نحوهما؛ لكنهم في الحقيقة كانوا يذكرون الحروب وتغير الممالك، ويذكرون من توفي في السنوات من أهل العلم أو الحكم، ولا يتطرقون لمعيشة الناس وأحوالهم، سوى عند حدوث جدب أو مجاعة، أو غير ذلك من كوارث الأرض والسماء، لكن حياة الناس الاقتصادية في غالب الأحوال لم تكن موضع اهتمامهم؛ فيظن القارئ أن تلك كانت حال التاريخ ليس غير، حروب وانقلابات ومجاعات وقهر ليس إلا. والحقيقة التي ينبغي إشاعتها في الناس هي غيرُ ذلك؛ ولعل كثيرًا من الرسائل الجامعية من ماجستير ودكتوراة، بل وبحوث ظهرت لأول مرة على شكل بحوث ترقية في أقسام التاريخ وفي أقسام الدراسات الاجتماعية في السعودية، وفي غيرها من الجامعات العربية تشهد لصحة ما قدمت؛ ومع القصور في نشر تلك الرسائل والبحوث إلا أنها لا تكفي في توعية المجتمع المسلم إلى حقيقة تاريخه المجيد، إذ إننا لا نجد في ساحتنا الإعلامية التي يتابعها العرب بشكل جيد فيما أرى، لا أجد فيها سوى هذه النظرة السوداوية للتاريخ الإسلامي؛ فمثلاً لا أجد من الحديث عن التاريخ الأموي سوى ذكر الصراعات بين علي ومعاوية -رضي الله عنهما، وابن الزبير، وعبدالملك بن مروان، وفتنة ابن الأشعث، وغير ذلك من الوقائع، والتي بعضها مكذوب كاستباحة المدينة وتحريق الكعبة. أما سنوات العيش الرغيد وسنوات الفتوحات فذكرها في أعماق الكتب، وربما رويت تلك الفتوح بشكل مجتزأ، عن صميم الواقع الذي خرج منه الفاتحون؛ ثم يأتونك بالحديث عن قيام الدولة العباسية، وما صاحبه من نكبات دون التعرض للمجتمع المسلم، وكيف كان يعيش، وكيف مر عليه سقوط دولة وقيام أخرى دون تأثر، وكأن المجتمع المسلم بأسره متضررًا، وليس فئة من الناس بعينها في بقعة محدودة من الأرض. نعم عاشت الأمة في بأساء أثناء الحكم البويهي في بلاد فارس والعراق، والعُبَيدي في مصر، والصليحي في اليمن، والقرمطي في الجزيرة العربية والشام، والحمداني في شمال الشام، وكلها جمعها سياق زمني واحد؛ لأنها عاشت تلك السنون في ظل حكم شديد في نزعته الطائفية؛ لكن هذه البأساء كانت في بلاد فارس والعراق وشمالي الشام أخف وطأة، وذلك لكون البويهيين والحمدانيين أحرص على انتظام الحكم منهم على انتظام الطائفة، وعلى ذلك شواهد عديدة؛ ومنها أن عضد الدولة ابن بويه أراد أن يعزل الخليفة العباسي ويولي بدلاً عنه خليفةً علويًا، فأشار عليه بعضهم: ألا تفعل، لأنك إن فعلت كنت أنت ومن تبعك تؤمنون أنه أحق بتصريف الأمور منك، أما الآن فأنت ومن تبعك تؤمنون بأنك أحق بتصريف الأمور منه؛ ولم يخل الأمر في عهده من خير للجميع على شدة بأسه على أهل السنة خاصة؛ أما القرامطة والعبيديون والصليحيون فكان تعلقهم بالطائفة وحدها، وما يتبع هذا التعلق من خرافات طفولية وغير مستساغة عقلا، جعلتهم أشد عنفًا في تطبيق مذهبهم على سائر رعيتهم، وإن لم يكونوا يتلبسون بلبوس مذهبهم؛ فكانت بحق مدتهم كربة في تاريخ المسلمين؛ على أنني لا أجد كتبًا كثيرة تتكلم عن الناس في عصر تلك الدول، ومدى قربهم من الله، واتباعهم شريعته وسنة رسوله، فإن ذلك هو معيارٌ لما يوجد في الأمة من خير أو شر؛ ويمكننا تصديق هذا من التاريخ نفسه. فقد راجعت الأمة علاقتها بربها ابتداء من العصر الثاني للسلاجقة «عماد الدين ونور الدين زنكي» توفي الأول 541 والثاني 569، وازداد تدين الناس في العصر الأيوبي، كما ازداد رخاؤهم في الشام وفي مصر والحجاز واليمن؛ أما فارس وما والاها والعراق فقد كان الحكم لا بأس به، إذ كانت بلاد فارس والتركستان وأجزاء من الهند وباكستان حاليًا تحت حكم محمد بن خوارزم، وكان حاكمًا يثني عليه المؤرخون 617ه. وكذلك العراق فقد استقل به خلفاء بني العباس، وكان حكامه من خيارهم وعلى عقيدة سمحة؛ إلا أن كل تلك البلاد ابتليت بالمغول ابتلاء منقطع النظير، نسأل الله العافية؛ وإنه وإن كانت الكتب تمدنا كثيرًا بأحوال محمد بن خوارزم، وكيف تسلط عليه المغول فإنني لا أظن ذلك بسبب خوارزم وحده، فهناك تقصير في الناس من جهة الله وسنة رسوله يوازي هذا النكد الذي ابتلوا به والله أعلم. أما في الغرب الإسلامي فقد وجدت دولتان متعاقبتان، المرابطون والموحدون، وقد عاش الناس في زمنيهما عيشة طيبة ما عدا تلك الفترة الوسيطة بين المرابطين والموحدين (من 530 إلى 550ه)؛ بسبب الخرافات التي بنى عليها ابن تومرت مذهبه، وكذلك بسبب كون الناس على مذهب مالك عقيدةً وفقهًا، وهو في العقيدة أشعري وفي الفروع ظاهري المذهب؛ وقَتَل الناس لإعوجاج مذهبه بذلك. وكذلك دولة بني مرين في المغرب، ومملكة غرناطة في جنوب الأندلس. فهي وإن كانت الحروب بينها وبين الفرنج مستعرة وانتهت بسقوطها، إلا أنها من حيث المكاسب المادية والحياة الاجتماعية لم تكن سيئة، تلك أمثلة من التاريخ، ولو كنتُ مؤرخًا لاعتنيت بها كي يتبين أن ما يذكره المؤرخون من الحروب والكساد والمجاعات، كانت في مدتها ومساحتها أقصر وأضيق مما يبدو للقارئ وهو يطالع الكتب. والمصادر هي كتب التاريخ نفسها التي نقرأ فيها الحروب والاضطرابات والمجاعات إذ لا تخلو من قصص وإن قَلَّتْ إلا أنها تفيد في بيان حالة العصر، وكذلك ما امتاز به التاريخ الإسلامي من كثرة كتب التراجم، سواء أكانوا قادة أم علماء أم عامة لهم أثر معروف جيدًا أم وضيعًا، وكذلك المغنون والمغنيات وغيرهم؛ تراجمُ تجدها في كل باب، وأعتقد أن الدراسات الجامعية لم تغفلها، لكن أين هي تلك الدراسات. ولعل المستشرق، جورج مقدسي، وغيره من المستشرقين تكلموا في هذا الجانب، إلا أن جورج مقدسي يُعد من أوضحهم منهجًا ودفاعًا عن كل ما يخص الإسلام، أما هل هو أكثر من سواه من المستشرقين دفاعًا عن التاريخ الإسلامي؟ فلا أعرف لهم محايدة حين يتكلمون عن المسلمين، وأقول: لا أعرف، لأنني لستُ حجة في هذا.. الحاصل أن التاريخ الإسلامي يبتغي كثيرًا رغم أنه كُتِب فيه كثيرٌ.