منذ ظهور البريد الإلكتروني، مرورًا بالإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، شهد العالم تحولًا جذريًا في طرق التواصل وتبادل المعلومات. خلال هذه الرحلة التكنولوجية، تراكمت كميات هائلة من البيانات لدى شركات التكنولوجيا الكبرى، والتي تعود في معظمها إلى دولة واحدة، باستثناء بعض المنصات مثل "تيك توك"، الذي يواجه ضغوطًا مستمرة للسيطرة عليه بسبب ضخامة البيانات التي يمتلكها. هذه البيانات مكنت هذه الشركات من فهم الرغبات، التوجهات، وحتى تفاصيل البنية التحتية للدول، مما أثر بشكل مباشر على سياساتها الاقتصادية. لكن تبقى هناك فجوة في فهم التفاصيل الشخصية الأكثر خصوصية، وهنا يأتي دور نماذج الذكاء الاصطناعي مثل "شات جي بي تي"، التي تشبه في وظيفتها الاعتراف الكنسي في المسيحية. ففي الاعتراف الكنسي، يكشف الأفراد عن أسرارهم لكاهن للحصول على المغفرة والإرشاد الروحي، بينما في عالم التكنولوجيا، يقوم المستخدمون بكشف تفاصيل حياتهم لخوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تجمع وتحلل هذه البيانات بدقة غير مسبوقة. كيف تُستغل البيانات اقتصاديًا؟ لنأخذ قطاع الرعاية الصحية كمثال. وفقًا لتقرير نشرته "بلومبرغ"، فإن أسعار أدوية السمنة في الولاياتالمتحدة أعلى بنسبة 300% مقارنة بدول أخرى بسبب ارتفاع معدلات السمنة. هذا ليس صدفة، بل نتيجة لتحليل بيانات صحية وسلوكية تُظهر الطلب المتزايد على هذه الأدوية. مثال آخر هو قطاع السيارات، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة "هارفارد" أن شركات السيارات تستخدم بيانات البحث عبر الإنترنت لتحديد المناطق التي تحتاج إلى طرازات معينة، مما يسمح لها برفع الأسعار في الأسواق التي تشهد طلبًا مرتفعًا. السيادة الرقمية: خطوة السعودية نحو المستقبل في هذا السياق، تأتي خطوة المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، واهتمام سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في إنشاء برنامج ذكاء اصطناعي عربي سعودي، كخطوة استراتيجية لتعزيز السيادة الرقمية وحماية البيانات الوطنية. هذه المبادرة لا تهدف فقط إلى مواكبة التطورات التكنولوجية، بل أيضًا إلى فتح آفاق جديدة للابتكار والتنمية المستدامة، مما يجعل المملكة لاعبًا رئيسيًا في عصر الذكاء الاصطناعي. الجوانب الأخلاقية: بين الفائدة والاستغلال مع ذلك، يثير هذا التطور تساؤلات أخلاقية حول خصوصية البيانات وكيفية استخدامها. هل نحن على استعداد للتخلي عن خصوصيتنا مقابل خدمات أكثر تخصيصًا؟ وكيف يمكن ضمان ألا تُستخدم هذه البيانات ضد الأفراد أو المجتمعات؟ هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابات واضحة من الحكومات والشركات على حد سواء. في الختام، بينما تقدم التكنولوجيا فرصًا هائلة لتحسين حياتنا، يجب أن نكون واعين لتبعاتها. خطوة السعودية في هذا المجال تعكس رؤية بعيدة المدى تهدف إلى تحقيق التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا وحماية مصالح المجتمع. * مستشار هندسة صناعية