تمثل العلاقات السعودية / الأمريكية واحدة من أقدم الشراكات الإستراتيجية وأكثرها تأثيرًا في النظام الدولي. وبين أول لقاء جمع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - بالرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1945 في البحيرات المرة، وآخر لقاء جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالبيت الأبيض، وبين قمة تمت وسط بحيرات ممتلئة بالبخار إلى أخيرة عُقدت في غرف وقاعات ازدحمت بالذكاء الاصطناعي، مسيرة امتدت لثمانية عقود، أُعيد خلالها تشكيل موازين القوى، وتبدّلت لغة المصالح، وتغيّرت قواعد اللعبة العالمية، لكن بقيت نقطة مركزية واحدة ثابتة: السعودية لاعب محوري ورئيس لا يمكن تجاوزه. وهذه المقارنة ليست مجرد سرد تاريخي، بل قراءة لجوهر التحوّلات التي شكلت المملكة والعالم. ففي فبراير 1945 حين التقى الملك عبدالعزيز روزفلت على متن السفينة «كوينسي»، كان العالم على وشك الخروج من أتون حرب كونية مُدمرة: أوروبا محطّمة، آسيا منهكة، والعالم يعيش لحظة مخاض عسير انتظارا لإعادة تشكيل خارطة سياسية جديدة ومراكز وأقطاب كبرى تتكون، فالإمبراطوريات الأوروبية واليابانية تتهاوى، والولاياتالمتحدة تولد كقوة عظمى، والشيوعية تتخذ من الاتحاد السوفيتي عرابًا لها لمواجهة الهيمنة الرأسمالية والإمبريالية الغربية، والشرق الأوسط يصبح مركزًا جيوسياسيًا ناضجًا بفعل النفط والموقع الإستراتيجي ومياهه الدافئة الجاذبة للجميع، والنظام الدولي يُعاد تشكيله والأمم المتحدة على وشك الإعلان، ووسط كل هذه الأمواج المتلاطمة جاء الملك عبدالعزيز إلى قمة السحاب والضباب حاملًا طموحات وأحلام مملكة صاعدة ومتأبطًا رؤى إستراتيجية واضحة: الاعتراف الدولي بالدولة السعودية الحديثة، وشراكة كبرى وإستراتيجية مع قوة عالمية قادمة بقوة متمثلة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ورفض إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وحينها تعهد روزفلت بأنه لن يتخذ أي قرار في قضية فلسطين دون التشاور مع العرب، وهو عهد وثّق في رسائله المتبادلة مع الملك عبدالعزيز، وتأسيس أول شراكة أمنية مع الولاياتالمتحدة، وفي الوقت ذاته كان روزفلت يرى الحاجة إلى تحالف إستراتيجي مع المملكة، والتي أيقن أنها ستكون الأقوى في إقليمها، وكان يدرك أن السعودية ليست مجرد دولة نفط، بل هي مفتاح استقرار الطاقة العالمي وصمام الأمان السياسي في قلب شرق أوسطي مضطرب، ومستشرفًا دورًا سعوديًا حاسمًا في التوازن مع بريطانيا في الشرق الأوسط، ووجد في المؤسس، رحمه الله، ضالته المنشودة كشخصية عربية قوية وقيادية وموثوقة يمكن التعامل معها بوضوح واحترام. فكان اللقاء تاريخيًا وُضع من خلاله حجر الأساس لعلاقة إستراتيجية استمرت حتى يومنا هذا، وحين التقى الأمير محمد بن سلمان بالرئيس دونالد ترمب، كان العالم يعيش مشهدًا مختلفًا إلى حد بعيد، فالولاياتالمتحدة لم تعد القوة الوحيدة المهيمنة حتى وإن كانت تملك حتى الآن الأفضلية، فالصين تنافس على الاقتصاد والتقنية، وروسيا تلعب دورًا صداميًا، وأوروبا في حالة انكفاء، والشرق الأوسط يعاد تشكيله، ووسط هذا المشهد جاء حضور القائد الاستثنائي محمد بن سلمان حاملًا رؤيته الذي هو عرابها ليعيد صياغة موقع السعودية في النظام العالمي، حيث أصبحت المملكة الجديدة لاعبًا رئيسيًا في كل الملفات السياسية والاقتصادية والتقنية والطاقة التقليدية والمتجددة، وتنافس عالميًا وبثقة في عالم الذكاء الاصطناعي، والاستثمارات السيادية، والرياض عاصمة العروبة والإسلام والسلام ومع محيط إقليمي ودولي حبلى بالأحداث والأزمات أصبحت تحمل دومًا (الحل يبدأ وينتهي من هنا) وهو لم يكن مُجرد شعار، بل تطبيقاته المدهشة ونتائجه المُذهلة تشهد بذلك. ولم يعتد الأمير محمد بن سلمان أن يدخل أي لقاء قمة من موقع الحاجة للآخرين بل من موقع الدولة التي يحتاجها الجميع وبشراكة لا تقوم على «التبعية»، بل على الندية المتبادلة، فالسعودية في زمنه لن تكون الدولة التي تبحث عن مظلة قوة عظمى، بل دولة تمتلك القدرة على أن تقول «نعم» و«لا» ومن موقع سيادي كامل، اللقاء الأول وضع الأساس.. وفي اللقاء الأخير الذي جاء في قلب واشنطن وفي أعلى منصات القوة، أعاد رسم السقف. كانت البداية مع طريقة استقبال واشنطن الاستثنائية للقائد الشاب، فحضرت بروتوكولات غير مسبوقة للأمير الفذ، واكبتها تغطية إعلامية واهتمام عالمي كبير، وتركيز سياسي واسع يشير بدلالة لقوة السعودية في كل المجالات، فالعلاقة لم تكن على الهامش، بل باتت شراكة بين قوتين لكل منهما مصالحه وحضوره الطاغي، وأما الرئيس ترمب فكان ينظر إلى السعودية من خلال قائدها الشاب كشريك مالي واستثماري ضخم. وكقوة إقليمية وعالمية قادرة على ضبط الاستقرار في المنطقة والعالم، وكدولة تمتلك وزنًا سياسيًا لا تستغني عنه واشنطن في أكبر ملفاتها، وكدولة لها النفوذ الأكبر في الطاقة التقليدية والمتجددة، وكمركز مالي ضخم، ومحور يربط آسيا بإفريقيا وأوروبا، ودولة ذات مشروع وطني يعادل مشاريع قوى عظمى. في لقاء البحيرات المرة كانت معادلة اللقاء بسيطة ولكنها حاسمة وإستراتيجية في وقتها، وفي اللقاء الأخير تطورت المعادلة إلى: استثمارات ضخمة في التكنولوجيا والطاقة المتجددة والدفاع وشراكة في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. وتفاهمات سياسية معقدة حول الشرق الأوسط، والتأكيد على دور سعودي مستقل في تشكيل النظام الإقليمي. وختامًا: فإن صقر الجزيرة الأول وصقر الجزيرة الآخر يتشابهان في «وضوح الرؤية» و«قوة الحضور» و«القدرة على فرض الاحترام» والخروج بمكاسب تحقق رؤيتهما الإستراتيجية وطموحهما غير المتناهي، ولكنهما يختلفان في أن الأمير محمد بن سلمان لا يبدأ من الصفر، بل من إرث عظيم بناه الجد، وطوره حفيده ليكون مواكبًا للعصر ويحقق رؤيته الكبرى. وبين اللقاءين: ارتفعت قيمة السعودية من دولة ناشئة إلى محور عالمي، وتحولت العلاقة من «تعاون ثنائي» إلى شراكة متعددة الأبعاد، وأصبحت السعودية لاعبًا يصنع الحدث، لا يتفاعل معه فقط. إنها قصة دولة تعرف كيف تبدأ... وكيف تتطور... وكيف تُمسك بخيوط اللعبة بين القوى الكبرى بثبات وذكاء.