شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بإدماج الفلسفة في البرامج التدريبية داخل المؤسسات التعليمية والأكاديمية ومراكز التطوير المهني، وهذا الاهتمام يعكس إدراكًا متناميًا لأهمية الفلسفة في تنمية التفكير النقدي، وتعزيز القدرة على التحليل، وصقل مهارات الحوار بين أفراد المجتمع. غير أن هذا التوجه الواعد لن يحقق أهدافه المرجوة ما لم يكن في إطار منهجية علمية واضحة وضبط دقيق، يضمن أن تكون هذه البرامج أداة فاعلة في خدمة التنمية البشرية، لا مجرد أنشطة شكلية أو تجارية أو شعارات نظرية. وقد تتمثل قوة الفلسفة في كونها ليست مجرد معارف أو نظريات جامدة، بل منهج للتفكير وطريقة لفهم الواقع، وتحليل القضايا، وحين تدخل الفلسفة مجال التدريب، فإنها تسهم في تمكين الأفراد من أدوات عقلية رفيعة، تساعدهم على طرح الأسئلة الصحيحة، وتفكيك المشكلات المعقدة، والتفكير في حلول مبتكرة، وهي بذلك قد تكون أدوات تدريب وتطوير وتنمية إذا ما تم توجيهها بالشكل الصحيح، وقد تزرع في المتدرب روح الاستقلالية الفكرية، وتعلمه كيف يكون مشاركًا فاعلًا في الحوار لا مجرد متلقيًا للمعلومة. ولكن هذا الهدف المنشود، والقيمة المضافة لا يتحققان بشكل تلقائي؛ بل يتطلب الأمر برامج تدريبية مصممة بعناية، توازن بين الطرح النظري والتطبيق العملي، وتراعي السياق الثقافي والاجتماعي، وتنسجم مع الأولويات الوطنية. وقد وضعت رؤية المملكة 2030 التنمية البشرية في قلب مشروعاتها، إدراكًا بأن الإنسان هو أعظم ثروة للوطن وأهم أداة لتحقيق طموحاته، وتركز الرؤية على بناء مواطن قادر على المنافسة عالميًا، مسلح بالعلم والمهارة، ومنفتح على المعارف الحديثة. ومن هذا المنطلق، يصبح إدماج الفلسفة في التدريب خطوة داعمة لأهداف الرؤية، إذا ما أُحسن ضبطها وتوجيهها، فالفلسفة أو ما يعرف بالكوتشن (Coaching School)، قادرة على تعزيز مهارات التفكير الناقد، التي يحتاجها سوق العمل المعاصر، كما تسهم في غرس قيم الحوار المسؤول، وإيجاد جيل أكثر قدرة على الابتكار، وهو ما ينسجم مع مبادرات الرؤية في التعليم، وتنمية الموارد البشرية، وتمكين الشباب.. ولكن!!. غياب الضبط عن البرامج التدريبية الفلسفية قد يؤدي إلى نتائج عكسية، فقد تتحول إلى برامج سطحية تكتفي بطرح عناوين كبرى دون محتوى متين، أو إلى ورش عشوائية تمزج بين الفلسفة والتنمية البشرية في صياغة تجارية بعيدة عن الأسس الأكاديمية. بل قد تفقد هذه البرامج مصداقيتها إذا لم يتم بناؤها على معايير علمية واضحة، أو إذا عُرضت بأسلوب لا يراعي خصوصية المجتمع واحتياجاته، وقد تستخدم لنشر فكر لا يتوائم مع ثقافة المجتمع. ويتطلب ذلك تحديد الأهداف بدقة والمستفيدين منها، سواءً في خدمة المجتمع أو في تنمية مهارات الطلاب أو تطوير قدرات المعلمين، وتأهيل القيادات التربوية، وجميع القطاعات الحكومية، واعتماد المناهج العلمية لها استنادًا إلى مصادر أكاديمية وطرائق بحثية، بحيث تكون على قدر من الملاءمة الثقافية التي تراعي البرامج فيها، القيم المحلية، ولا تكون نسخة مستوردة بلا تمحيص. وعلاوة على ذلك لا يمكن لأي برنامج تدريبي أن ينجح دون مدربين أكفاء، ومن هنا تأتي أهمية انتقاء المدربين، فالمدرب ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل هو موجه وملهم، قادر على فتح آفاق فكرية جديدة للمتدربين، وينبغي أن تتوافر فيه معايير أساسية من الكفاءة العلمية ودراية بالمدارس الفكرية، فليس كل ما يعرف يقال. مع ضرورة الانسجام مع الأهداف التنموية، وأن يكون محتوى التدريب موجهًا لخدمة مبادرات الرؤية في التعليم والابتكار، وأن تكون حقائب التدريب محكمة ومدققة، ولا يخرج عنها المدرب في شيء، وإدراك المدرب الخصوصية الوطنية واحترام القيم المجتمعية. وهذا لا يمكن أن يكون إلا باختيار المدربين بعناية يضمن أن تكون البرامج الفلسفية أداة لتطوير العقول، لا مجرد نشاط نظري ينتهي بانتهاء ورشة العمل أو فترة التدريب، إن ضبط البرامج التدريبية الفلسفية ليس ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة تفرضها طبيعة المرحلة التي تعيشها المملكة في ظل رؤية المملكة 2030. فالفلسفة، حين تقدم بأسلوب منهجي ومنضبط، تصبح وسيلة لبناء إنسان سعودي أكثر وعيًا، قادرًا على التفكير النقدي والإبداعي، ومؤهلاً للمشاركة في نهضة الوطن وتنميته وبنائه. أما إذا تركت دون معايير واضحة، فقد تتحول إلى مجرد نشاط شكلي يفقد قيمته، وقد يستغل من ضعاف النفوس، إن الاستثمار الحقيقي يكمن في الإنسان، وضبط البرامج التدريبية الفلسفية هو أحد السبل الفاعلة لصناعة جيل أكثر إدراكًا وقدرة على مواجهة تحديات المستقبل، وهو ما تسعى إليه رؤية المملكة 2030 بوعي وحزم بقيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله. حفظ الله المملكة العربية السعودية قيادة وشعبًا.. وأدام الله عليها الرخاء والازدهار والاستقرار.