في زوايا هذا الكوكب الذي أرهقته صراعات البشر، هناك أصوات لا تُسمع، وكائنات لا تملك لسانًا تدافع به عن حقها في الحياة. ومع ذلك، هناك من قرر أن يتكلم بالنيابة عنها، لا طمعًا في منصب ولا بحثًا عن مجد، بل بدافع أصيل من الحب والانتماء. إنهم العاملون في جمعيات الحياة الفطرية؛ أولئك الذين آمنوا أن كل مخلوقٍ غيرنا له حق الحياة الكريمة، وأن ما نصنعه للطبيعة سيرتد إلينا، خيرًا أو شرًا. منذ صغري كنت أندهشُ من الطيور التي تهاجر آلاف الأميال دون أن تضل طريقها، ومن الغزلان التي تركض برشاقة كأنها ترقص مع الريح. وعندما كبرت، فهمت أن هذه المخلوقات ليست مجرد صور جميلة في وثائقيات الطبيعة، بل شركاء لنا في هذا الوجود. وفهمت كذلك أن بقاءها لم يعد أمرًا طبيعيًا، بل أصبح بحاجة إلى من يحميه، ويسهر عليه. وقد أدركت عمق هذه الحقيقة عندما شاهدت برنامجًا وثائقيًا أجنبيًا عن فعالية ميدانية لإحدى الجمعيات المعنية بالحياة الفطرية، كانت تهدف إلى إنقاذ أحد أنواع السلاحف البحرية المهددة على أحد الشواطئ. لم يكن المشهد بطوليًا كما يصوّره الإعلام، بل كان مليئًا بالبساطة وشيءٍ من الجهد: متطوعون يلتقطون النفايات بصمت، آخرون يراقبون الأعشاش بحذر، وطفل صغير يمشي بجوار والدته يحمل دلوًا فيه ماء بارد يرشّه حول حفرة فقست فيها السلاحف الصغيرة لتبدأ رحلتها نحو البحر. لم أنسَ نظرة السلحفاة الأولى التي خرجت من الرمل، كأنها تودعهم قبل أن تندفع نحو المجهول. حينها، شعرت أن كل شيء يستحق. إن جمعيات الحياة الفطرية لا تكتفي بحماية الحيوانات المهددة بالانقراض أو مراقبة الطبيعية، بل تسهم في تشكيل وعي مجتمعي حيوي جديد، يرى في كل كائن حي قيمة، وفي كل شجرة قصة، وفي كل وادٍ حياة لا تقل قدسية عن حياتنا. ومع ذلك، يواجه هؤلاء الأبطال تحديات لا تُحصى. التمويل يأتي متقطعًا ويكاد أن يكون معدومًا وسط تجاهل من رجال الأعمال وغياب الجهات المعنية بالتنمية، وعدم توفير المقرات المناسبة، كما أن البيروقراطية تعيق الإنشاء وحتى حركة الفرق الميدانية من المتطوعين، والتشريعات أحيانًا تقف عاجزة أمام جشع بعض المتعدين على الطبيعة، الحقيقة كثيرون هم من يغفلون عن أهمية هذه الجمعيات. لكن الأخطر من كل ذلك هو ضعف الوعي المجتمعي. كثير من الناس لا يدركون أن قتل طائر، أو اقتلاع شجرة نادرة، أو تلويث شاطئ... هو في الحقيقة جرح لكائن لن يصرخ، لكنه سينزف حتى الفناء. الحلول موجودة، لكنها تحتاج إلى إرادة... نحن بحاجة إلى دمج جمعيات الحياة الفطرية في المناهج التعليمية، لينشأ الأطفال على احترام الطبيعة لا الخوف منها. بحاجة إلى دعم إعلامي لا يصور المدافعين عن البيئة كمجانين، بل كحكماء سبقونا إلى الحقيقة. وبحاجة كذلك إلى مقرات مؤهلة وإلى دعم سخي، وإلى شراكات بين هذه الجمعيات والقطاعات الاقتصادية، لأن الاستثمار في الطبيعة هو استثمار في المستقبل. وما لا يجب أن ننساه أبدًا: أن هذه الكائنات وإن كانت بلا صوت، فإنها تملك الحق في الحياة. وجمعيات الحياة الفطرية، في كل مكان، ما هي إلا صوت الطبيعة المقموع، يعود لينطق من جديد، على أمل أن نسمعه هذه المرة، قبل فوات الأوان.