أيد تمتد، ترفع الرضيع عاليا، وعيون تحوطه.. تنظر باسمة إليه، تُطَمْئِنه وتطمئن عليه.. أيد متآلفة ممتدة إلى الرضيع، تعضد بعضها.. ترفعه عالياً، وعيون تمتد بنظرها إليه في مركز استدارتها عليه من كل جانب. أما المكان فإن ازدحام الناس وتنوع أصولهم وألوانهم لن يدعك تذهب بعيدا لتتكهن بمكان آخر غير مشاعر الحج، وأما الأيدي الممتدة لحمل الرضيع، فهم ثلة من جنود قوات الطوارئ السعودية. الصورة هكذا لا تدعك تمر دون أن تنظر إليها وتستغرق في النظر.. ستنظر إليها، لأنها تستدر شعورك نحو الطفل، وهو في الحافة بين النجاة ولجة الازدحام. وستنظر إليها لأنك تشعر أن يدك تمتد مع الأيدي الممتدة إلى الطفل، وأن عينيك كما عيونهم تنثران عليه بهجتهما وطمأنينتهما وتغسلانه بحفاوتهما به. ولكنك ستنظر إلى الصورة في معنى أكثر صلة، حين ترى في هؤلاء الجنود الأبطال وطنيتك، وقوَّتك، ومعناك. هكذا ترى فيهم الوطن بقدر ما ترى ذاتك، ترى فيهم الكل الذي أنت بعضه، والبعض الذي أنت كله. تداول الصورة في تويتر وفيسبوك وغيرهما من شبكات التواصل، اقترن بعبارة تحكي أن وكالة رويترز اختارتها «صورة العام»، وقد تستحق الصورة ذلك فعلاً، لكنني بحثت في موقع وكالة رويترز فلم أجد شيئاً عن ذلك. ومن كتب العبارة -على أي حال- لم يزد في معاني الصورة، ولم تكن معانيها بحاجة إلى عبارته! الصورة جاءت في سياق نجاح مشهود لحج هذا العام، ولهذا كانت دلالة النجاح تفيض في الصورة على سواعد أولئك الجنود حين يرفعون الرضيع، وفي عيون الحشد ومسحة الرضا على الوجوه من حوله. الحج هو تحدي المملكة وشرفها؛ تحديها لأنه تجمُّع كثيف من شعوب مختلفة في زمان ومكان محددين ومحدودين، وشرفها لأن أرضها محضن مشاعره ومدرج مواسمه ووجهة الأشواق الإيمانية إليه من أنحاء الأرض. ظلال نجاح الحج هذا العام على السواعد المفتولة الحاملة للرضيع، هي ظلال الانضباط والدقة والحزم في التخطيط والتنفيذ. فالشهادات هذا العام عديدة على الصرامة في تنفيذ النظام. وقد كان إطلاق شعار «لا حج بلا تصريح» مهماً في إغلاق المنافذ التي تؤدي إلى زيادة غير محسوبة وافتراش للطرقات، كما كان الالتزام بالشعار وتطبيقه كاشفاً عن مبلغ المخالفات التي تم ردعها. النجاح الأمني في ضبط الحدود المؤدية إلى المشاعر وفي تنظيم حركة المرور وفي المراقبة، هو أس الجهود. وتردفه جهود الصحة والشؤون البلدية ووزارة الحج، وغيرها من الجهات. أشاهدُ الصورة وأتأمل الأيدي الممتدة، ترفع الرضيع عالياً، وتستدير عليه بأنظارها ومعها بعض أيدي الحجاج وعيونهم، فأجد في الصورة معنى المسؤولية ومعنى الإنسانية ومعنى الجمال: المسؤولية التي ليست أوامر نتلقاها وإنما شعور بالواجب ينبثق من الداخل، والإنسانية حين يغدو الطفل موضوع مساعدة أو إنقاذ، والجمال وهو حس حيوي بالوجود ليس أصدق دلالة عليه من الطفولة وقوة الشباب. قبلة على جبينكم أيها الأبطال!