تحدثت في الحلقة الأولى عن الفيلم المؤثر (12 سنة من العبودية)؛ حيث استعرضت أحداث الفيلم وكيف كان يخاطب السيد العبيد مستخدماً الكتاب المقدس فيما يقول. ولم يحرم هذا السيد الغليظ القلب عبيده من دروس يوم الأحد، وجلب لهم واعظاً أبيض، يعظهم كل أسبوع، ويحدثهم عن الرب والدين، جوفاء كانت تلك الكلمات، ليس فيها روح، وغاب عنها كل معنى، كانت ساعة الدرس راحة لهم، ولكنها كانت تحرك مواجع البعض، وتثير سيلا من تساؤلات محيرة تتخللها آهات حرى: أين الرب؟ أين رحمته؟ أين عدالته؟ أيرضى بهذا؟ أين هذا الكلام من بؤسنا وشقائنا؟ لم يفقد صاحبنا الأمل، حاول الهرب، ولكنه لم يفلح، وذات مرة عمل معهم عامل أبيض، ظنه أهلا للثقة، وأعطاه مالا وفره نظير إرساله خطابا لأهله يعلمهم بحاله ويطلب عونهم ونجدتهم، فيأخذ الرجل المال، ويشي بالسر، ويعلم السيد الذي أوشك أن يصدق الوشاية، ولكن صاحبنا تملص بذكاء من التهمة، وأخبر السيد بغيرة ذاك الرجل ورغبته في أن يكون مسؤولا عن المزرعة. زائر في الليل، يتسلل في حذر إلى غرفة صاحب القصة، يطرق الباب طرقات خفيفة، وهو يتلفت خوف الرقيب، يفتح صاحبنا الباب ليفاجأ، فالزائر هو تلك الجارية الحسناء، وأثر الشجة ظاهر على جبينها، تسأله أن يساعدها في فعل أمر لم تقدر على فعله بنفسها، أرجوك خذ هذه الحلي، واقتلني في النهر، أغرقني في الماء، وأمسكني بقوة حتى أموت، نعم، حتى أموت، أريد أن أرتاح من عذابي، عمل منهك في النهار، والسيد يزورني في الليل، ويبدي إعجابا بي، وتغار زوجته، وتضربني، وتأمره أن يضربني ويجلدني ويبعدني، وهو لا يريد، فجسدي يستهويه، نعم جسدي فحسب، فأنا في عينيه جسد بلا روح، يا له من عذاب فوقه ألف عذاب، ساعدني أن أموت، خلصني من عذابي، يرفض صاحبنا، ويشيح بوجهه عنها، فتعود حزينة خائبة! أين ذهبت تلك الجارية؟ أهربت؟ ابحثوا عنها، يا لألمي! هربت جاريتي الحبيبة، لن أراها أبدا: يصرخ مالك المزرعة، ويأمر عبيده بالبحث عنها، لم نجدها يا سيدي، يتألم السيد، ويبكي، وفجأة تظهر محظيته، أين ذهبت؟ أذهبت لجارنا في المزرعة المجاورة، وهو كما تعلمين يحب الجواري! اعترفي، لم أفعل، يضربها فتعترف، نعم، نعم ذهبت لبيت الجيران، لا لشيء إلا للحصول على الصابون لكي أنظف جسمي، فزوجتك – وأنت تعلم مشاعرها تجاهي- لا تعطيني ما أنظف به جسمي، وتريه قطعة صابون صغيرة بيدها، يجن السيد، ويشتد جنونه بحضور زوجته الغيور، إنها كاذبة خائنة، اجلدها لو كنت رجلا، أم هل أعمتك المشاعر التي تعرف؟ أنت جبان وضعيف، يأخذ السوط، ويريد جلد الجارية، فلا يقوى، ويرمي بالسوط لصاحب القصة، هيا واجلدها، إنني آمرك، هيا واجلدها الآن وإلا قتلتك، تصيح الجارية هيا اجلدني، فإنني أفضل أن تجلدني أنت، نعم أنت، يبدأ صاحبنا مكرها في الجلد، ولكن جلده كان خفيفا وغير مؤلم، فتصرخ الزوجة في غيظ: إنه لا يجلدها بقوة، انظر لظهرها العاري، لا أثر للجلد عليه، مره فليجلدها بقوة، وليفصل لحمها عن عظامها، أريد أن أرى دمها وأسمعها تصرخ من الألم، لا يقوى صاحبنا، فينزع السيد السوط من يده، ويجلدها بنفسه، بقوة، وغلظة، وحنق، وهو يقول: كاذبة، خائنة! يصاب محصول القطن في مزرعة السيد بآفة تتلف المحصول كله لسنتين، ينظر إليه صاحب المزرعة بألم، لماذا يحصل هذا؟ لماذا يكرهني الرب؟ أي جرم جنيت؟ لا، لست أنا الملوم، فأنا أنفذ تعاليم الرب، إن السبب هو شؤم أولئك العبيد الكفرة، فالرب لا يحبهم! تمر الأيام والشهور والسنين، وصاحبنا لم يفقد الأمل، وذات مرة استأجر صاحب المزرعة نجارا أبيض ليعمل في المزرعة، وخيل لصاحبنا أن هذا النجار مختلف عن غيره، فلقد كان يلوم السيد لسوء معاملته لعبيده، ويخوفه من عقوبة الرب له، هل أصدقه؟ أم لعله يخونني مثل سابقه؟ وبعد التأكد طلب صاحب القصة من النجار الأبيض أن يرسل خطابا بريديا لأهله، ليعلمهم عن حاله، لكي يأتوا لنجدته، وتخليصه من عبوديته التي قاربت 12 عاما، ويغادر النجار بعد إنهاء عمله، وتغيب معه آثار الرسالة، وتكاد شمعة الوقت تذوي مع الألم، وصاحبنا يخاف الشنق، وهو عقوبة من يهرب من العبيد، ولقد رأى بنفسه عددا منهم يشنق في الغابة. يوماً يتلوه آخر وآخر، عمل منهك، ضرب، وإهانة، وذل، وكسر للإرادة، وخنق للأمل، تتشابه الأيام والشهور والسنين، ويخفت حادي الأمل في قلب صاحبنا، لقد مرت سنون طويلة، أيعقل أن أتحرر من ورطتي هذه، وأرجع – كما كنت – حرا طليقا آمنا، عزيزا ومكرما بين أهلي وأصدقائي، ويغمض عينيه على بقية باقية من حلم وأمل! في صبيحة يوم من الأيام أتى شرطي للمزرعة التي يعمل فيها صاحب القصة ومعه رجل أبيض غريب، ونادى الشرطي صاحبنا قائلا: هل لك اسم آخر؟ أجاب صاحبنا: نعم، إن اسمي هو..، ما اسم زوجتك وما اسم أولادك وهل تعرف هذا الرجل؟ أجاب الشرطي، وأرجع النظر في الرجل المصاحب للشرطي، فتعرف عليه، إنه صديقه صاحب متجر في المدينة، واضطرب السيد لمرأى الشرطي، وتعلق بصاحبنا، هذا عبدي، ولقد دفعت ثمنه، لن تأخذه، ويبرز الشرطي ما يثبت حرية صاحبنا، ويأخذه بعيدا، ويرجعه لأهله وأولاده، زوجة وفية تنتظر عودته، كبر الأولاد، من هذا الوجه الغريب، ومن هذا الطفل الرضيع؟ هذا زوج ابنتك، وهذا حفيدك سميناه على اسمك أملا في رجوعك، سميناه سولمون نورثيب الصغير، اعذروني لما حصل، اعذروني، فقد مرت علي صعاب كثيرة، إنني أحبكم، ولم أفقد الأمل في رؤياكم!