بريطانيا تتمسك بترحيل اللاجئين ومنظمات حقوقية تعارض خططها    الفصول تتحول إلى مخيمات للحوثيين    محافظ الدرعية يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية سفراء التراث    غدا.. يوم حافل للطيران بتوسعة وافتتاح مطارين في الأحساء والرس    «سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر حوكمة البيانات لبناء قدرات 80 مواطناً ومواطنة    انتشال جثامين 35 شهيداً من مقابر جماعية في خان يونس جنوبي قطاع غزة    الادعاء يتهم ترمب بانتهاك حظر النشر في قضية «المال الخفي»    وكلاء وزارات التجارة بدول مجلس التعاون يعقدون اجتماعهم التحضيري ال58    أمير الرياض يرعى غدًا حفل جائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية    سدوس.. من أقدم المستوطنات البشرية في جزيرة العرب    السعودية تدين استمرار جرائم قوات الاحتلال في غزة دون رادع    فيصل بن فرحان يستقبل وزير خارجية مملكة البحرين    حملة رقابية على المباني قيد الإنشاء    4 ميداليات لجامعة نورة    العثور على 300 جثة في مقبرتين جماعيتين بغزة    ضبط مخالفين لنظام أمن الحدود في جازان لترويجهما مادة الإمفيتامين ونبات القات المخدرين    معرض برنامج آمن يجذب أطفال المنطقة الشرقية عبر فعاليات توعوية المتنوعة    القصاص من مواطن قتل أخته    الذهب لأدنى مستوى.. انحسار توترات الشرق الأوسط والأسهم تواصل مكاسبها    "تاسي" يواصل التراجع.. و"اكوا باور" يسجل أعلى إغلاق    مجلس الوزراء: منح المتضررين من تصدعات قرية طابة تعويضاً إضافياً أو أرضاً سكنية    الفريق البسامي يستعرض الخطط الأمنية لقوات أمن الحج    ذوو الإعاقة يطالبون بمزايا وظيفية وتقاعد مبكر    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور جامعة جازان    تركيب نصف مفصل فخذ صناعي لسبعيني في مستشفى الملك خالد بالخرج    أمير منطقة تبوك يهنئ جامعة تبوك لحصدها ٦ ميداليات في معرض جنيف الدولي للاختراعات    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقآء الأسبوعي    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلتقي منسوبي فرع الرئاسة العامة بمنطقة جازان    أمير حائل يستقبل مدير فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالمنطقة    أبها يكشف إصابة زكريا سامي بالرباط الصليبي    محافظ الأحساء يستقبل قائد لواء الملك عبدالعزيز بالحرس الوطني المعين    تشكيل الهلال المتوقع أمام العين الإماراتي    كريسبو يتحدث عن غياب بونو وميتروفيتش    المجمع الفقهي يوصي بتمكين المرأة بالتعليم    السديس يُثمِّن جهود القيادة الرشيدة لتعزيز رسالة الإسلام الوسطية وتكريس قيم التسامح    غدًا الأربعاء .. افتتاح مطار غرب القصيم بمحافظة الرس    سمو وزير الدفاع يتلقى اتصالا من وزير الدفاع البريطاني    نائب رئيس مجلس الشورى يلتقي النائب الأول لرئيس البرلمان اليوناني    مارتينيز سعيد بالتتويج بلقب الدوري الإيطالي في قمة ميلانو    طرح تذاكر مباراة الاتحاد والشباب في "روشن"    ريادة "كاوست" تحمي التنوع بالبيئة البحرية    ارتفاع في درجات الحرارة على منطقتي مكة والمدينة وفرصة لهطول أمطار بالجنوب    «السيادي السعودي».. ينشئ أكبر شركة أبراج اتصالات في المنطقة    الإعلام والنمطية    دور السعودية في مساندة الدول العربية ونصرة الدين الإسلامي    النسيان النفسي    اختلاف زمرة الدم بين الزوجين    سلسلة من الزلازل تهز تايوان    العين بين أهله.. فماذا دهاكم؟    ماذا يحدث في أندية المدينة؟    أمانة المدينة تطلق الحركة المرورية في طريق سلطانة مع تقاطعي الأمير عبدالمجيد وخالد بن الوليد    مساجد المملكة تذكر بنعمة الأمن واجتماع الكلمة    قصور الرياض واستثمارها اقتصادياً    أمير حائل يفتتح أكبر قصور العالم التاريخية والأثرية    أمير حائل لمدير قطاع الحرف: أين تراث ومنتوجات حائل؟    «البيئة» تُطلق مسابقة أجمل الصور والفيديوهات لبيئة المملكة    الزائر السري    أمير الرياض يرعى حفل تخريج دفعة من طلبة الدراسات العليا في جامعة الفيصل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإبداع تجاوزٌ للسائد فلا يكون إلا خارج القوالب
نشر في الرياض يوم 11 - 05 - 2014

تتضافر حقائق التاريخ والواقع لتؤكد بأن الريادات الإبداعية نادرة في كل الأمم وفي جميع الأزمنة وأنها ليست من نتاج التعليم فلا توجد أية جامعة محترمة في العالم تدعي أنها قادرة على تخريج المبدعين في أي مجال، فالمبدعون والرواد نبتٌ فريد إنهم نتاج ذواتهم وهم سابقون تاريخيًّا لتعميم التعليم ويتجدَّد ظهورهم خارج التنميط التعليمي فهم يُشْبهون المياه العذبة حين تنفصل بالتبخُّر عن المحيط المالح فتصعد في الأجواء فتتكوَّن بها السُّحُب لتهطل أمطارًا عذبة وقد كانت مكوِّناتها في الأصل ذائبة في المحيط المالح.
لقد عرفنا أن الإنسان كائنٌ تلقائي وأنه يتبرمج تلقائيًّا في طفولته بما هو سائد فإذا اعتمد على نفسه مبكرًا ربما ينعتق من بعض أو كل قيود البرمجة التلقائية، أما إذا واصل التعليم النظامي وانسجم معه فإنه سوف يعيش في أجواء الامتثال والطاعة والالتزام فيتعمق اعتياده على أن يقاد وأن يعتمد على غيره إن خضوعه لهذا الدمج قد يؤدي إلى اختفاء أو ضمور قابلياته الإبداعية أو قد ينشغل عنها وتسْتغرقه الواجبات التعليمية
إن القولبة التعليمية تكون مسبوقة ببرمجة الطفولة التلقائية، فالتعليم تعميقٌ وتوسيع للبرمجة وليس تغييرًا لها، وهو بذلك ليس فقط غير مؤهَّل لإنتاج المبدعين وإنما قد يقضي على القابليات الإبداعية أويُضعفها أو يشغل الفرد عن الانتباه لها ويصرفه عن تنميتها، ويعوقه عن استثمارها، فالإنسان يتبرمج بما يعتاده وهو غالبًا يثق تلقائيًّا بما هو سائد ويُجلُّه أو يقدسه فلا يضعه موضع المساءلة فهو يتكيَّف معه ولا يحاول تصحيحه أو تكييفه لذلك فإنه بمقدار انتظام الفرد في التعليم النظامي تتوطد البرمجة المؤسِّسة وقد تختفي عنده إمكانات التفكير المستقل فيزداد اندماجه في المجموع ويعتمد على المحاكاة والتقليد ويعتاد الإلتزام بما يتلقاه وقد يتحول هذا الإلتزام إلى تعصب مستحكم...
لقد عرفنا أن الإنسان كائنٌ تلقائي وأنه يتبرمج تلقائيًّا في طفولته بما هو سائد فإذا اعتمد على نفسه مبكرًا ربما ينعتق من بعض أو كل قيود البرمجة التلقائية، أما إذا واصل التعليم النظامي وانسجم معه فإنه سوف يعيش في أجواء الامتثال والطاعة والالتزام فيتعمق اعتياده على أن يقاد وأن يعتمد على غيره إن خضوعه لهذا الدمج قد يؤدي إلى اختفاء أو ضمور قابلياته الإبداعية أو قد ينشغل عنها وتسْتغرقه الواجبات التعليمية فيبقى قابعًا في القوالب ويغفل عن إمكاناته الكامنة فلا بد من تكرار التأكيد بأن الإبداع لايكون إلا خارج المأْسَسَة، إنه انفلاتٌ من القوالب السائدة لذلك فإن الحضارة لا تتقدم إلا حين يتوفر التكامل بين الريادات الفردية الخارقة والاستجابة الاجتماعية الإيجابية الكافية.
وتختلف قابليات المجتمعات للتقدم أو التقهقر بمقدار انفتاح الثقافة أو انغلاقها وقدرتها على تقدير الريادات الإبداعية الخارقة إن حركة الثقافة السائدة في أي مجتمع قد تكون في اتجاه التقدم أو في اتجاه التقهقر فلكل مجتمع ثقافة ولكل ثقافة اتجاهٌ عامٌّ فالثقافة منظومةٌ من التصورات ومنظومةٌ من القيم ومنظومةٌ من الإهتمامات تلتقي كلها وتلتحم لتتكوَّن بها سلسلةٌ من العادات الذهنية والسلوكية إنها مسارات تلقائية ينساب معها التفكير والسلوك ويبقى هذا الانسياب منتظمًا تلقائيًّا حتى يتم قطعه بما يشبه القطيعة المعرفية ولكن لما كان العقل يحتله الأسبق إليه فإنه حتى مع هذه القطيعة لو حصَلَتْ ونادرًا ماتحصل فإن التبرمج الأسبق يبقى متربِّصًا ليعود إلى مساره كما يعود النهر إلى مجراه الأول بعد انكسار السد الذي أقيم لصرفه في اتجاه آخر...
إن التعليم بكل مراحله وأنواعه ومستوياته محكومٌ بثقافة المجتمع وليس حاكمًا لها والإعضال الأكبر أن المجتمع لايختار ثقافته وإنما كل جيل يرث ثقافة الجيل الذي قبله في تناسل ثقافي حتمي حاسم فالتعليم مصوغٌ شكلاً ومضمونًا واتجاهاً وأهدافًا بهذا التناسل الثقافي الحتمي وكما يقول المفكر الناقد محمود أمين العالم في كتابه (الإبداع والدلالة): (( فالتعليم مؤسسة مرتبطة بالسلطة أيًّا كانت طبيعة هذه السلطة بل هو جهازٌ من أجهزتها الايديولوجية )) إن التعليم تصاغ فلسفته وتُحدَّد مناهجه ومقرراته وأهدافه بوصفه امتدادًا للتناسل الثقافي إنه يأتي لتكريس الواقع وليس لتغييره بينما أن الإبداع لابد أن يكون إضافة جديدة أو قطيعة مع واقع راسخ وكما يقول محمود أمين العالم فإن المبدع ليس امتثاليًّا يجتر السائد وإنما يستمد إبداعه من رؤية مغايرة: (هي سلطة مستقلة سلطة عقلانية للنقد والاكتشاف الحر والتوجيه في مواجهة كل سلطة سائدة أيًّا كانت هذه السلطة).
إن الوضع التلقائي لأية ثقافة سائدة هو الثبات والتكرار والاستمرار ليس هذا فحسب بل إن الناس المبرمَجين بالثقافة السائدة لايرون وجودهم إلا بتجسيدها فكرًا ووجدانًا وسلوكاً فهي تجري منهم جريان الدم وتسري فيهم سريان الحياة إنها هي التي تحدِّد هويتهم ورؤيتهم وقيمهم واهتماماتهم ونمط تفكيرهم ومسارات سلوكهم وأولويات حياتهم...
إن المنتمين لأية ثقافة يرونها كمالاً مطلقًا ويستحيل أن يروا نقائصها مهما تراكمت هذه النقائص وهذا هو عائق التقدم الأشد خفاء واستعصاء. إن مايراه من هم خارج الثقافة نقائص وعوائق يراه من هم داخلها مزايا ومفاخر وحوافز إنهم مستعدون للدفاع عنها والتضحية بحياتهم من أجلها من غير أن يخطر على بال أحد منهم أن يتوقف ويفحص ويتحقق إن التعليم الإضطراري لايمكن أن يؤثر في البنية الذهنية المستقرة فهو طلاء خارجي على بنية ذهنية مُحْكَمة البناء قوية الإغلاق لذلك فإن الذي يحرك الناس هو اهتماماتهم التلقائية النابعة من برمجة الطفولة العفوية المستحكمة واستطالاتها التي تتمدد أوتتغوَّل قصدًا أو عفوًا. إن التعليم ينمي بقوة برمجة الطفولة لكنه لا يغيِّرها إنها تقاوم بعنف مالا يتفق معها إنها شديدة الرسوخ والانتظام والمقاومة، فما لم يحصل حَدَثٌ استثنائي ضخم وعامٌّ يؤدي إلى توقُّف حاد فاحص وقطيعة معرفية فاصلة فإن كل جيل في أي مجتمع يتبرمج بثقافة الجيل الذي سبقه ويضيف مزيدًا من عوامل الديمومة والرسوخ والانتظام والتمحور. إن هذه الاستمرارية التلقائية المنتظمة المتمحورة حول الذات تتعارض تعارضًا تامًّا مع متطلبات النمو الثقافي والتقدم العلمي والإزدهار الحضاري إن التقدم لايتحقق إلا بانبثاق وعي طارئ كاشف تتعرى به السوءات التي حجبها التعود والذوبان في التيار ويتضح به أن التقدم لاينتجه الاستمرار والانتظام في السائد وإنما هو ثمرةُ المراجعة الحاسمة والإضافات الثرية المتتالية.
إن الذين تتبرمج عقولهم على الاتباع يندر أن يتحرروا من هذه البرمجة لذلك نجد أن الأكثرية من المبدعين في كل العالم وفي جميع المجالات قد انفردوا بأنفسهم في مرحلة مبكرة فانطلقوا في تكوين ذواتهم تكوينًا مستقلا حتى امتلأت قابلياتهم بما هو جديد ومغاير ففاضت فكرًا ومعرفةً وإبداعًا...
إن الإبداع في كل فترات التاريخ وعند كل الأمم يتجسَّد في حالات فردية استنثائية لذلك فهو ليس من نتاج تعميم التعليم ولا يمكن أن يكون من نتاجه فأي مسح للحالات الإبداعية على المستوى الإنساني سوف يؤكد ذلك غاية التأكيد ففي مقال سابق اتضح لنا أن أكثر الفائزين بجائزة نوبل في الأدب كانوا من خارج التأطير التعليمي أما في هذا المقال فنورد شواهد أخرى من المبدعين فأديب روسيا الأشهر تولستوي لم يلتحق بأية جامعة وإنما انفرد بنفسه مبكرًا: يقرأ ويتأمَّل ويتعمَّق ويقارن ولا يكتفي بأن يقارن بين المجتمعات في وقته وإنما عاد إلى تاريخ الأمم ليقارن بينها خلال التاريخ فانتهى إلى رؤية عميقة في فلسفة التاريخ وفي طبيعة الإنسان لقد كوَّن نفسه بنفسه ففاض إبداعًا بالغ الروعة والغزارة والعمق وصارت الأمم تنقل إبداعاته إلى لغاتها المختلفة بوصفه من حكماء الإنسانية العظام.
إن أمامي حشْدٌ من أسماء المبدعين الذين صنعوا أنفسهم بأنفسهم بعيدًا عن القولبة التعليمية التي تطفئ النوازع الفردية وتذيب الأفراد في اتجاه التماثل والامتثال ولكن لن تتسع المساحة المتاحة لهذا المقال إلا لبعض الأسماء.
كنت في المرحلة الثانوية حين قرأت كتاب (الخمور الفكرية) للمبدع المجري آرثر كوستلر ولقد شدَّتني أفكاره بقوة فصرت أبحث عن مؤلفاته. إنه روائي مدهش ومفكر عميق وناقد بصير ومناضل صادق التحق بكلية الهندسة لكن اهتماماته التلقائية المتأججة لم تكن اهتمامات مهنية وإنما كانت اهتمامات إنسانية عالية فَتَرَك الدراسة مبكرًا وتفرغ للتأمل والبحث والنشاط والكتابة لقد بنى نفسه بنفسه فأصبح معدودًا في طليعة مثقفي العالم.
أما المبدع الروسي الشهير مكسيم جوركي فلم يحصل حتى على شهادة المرحلة الإبتدائية ولكنه برؤيته النافذة وسعة ثقافته وعمق تفكيره وروعة إبداعه وقدرته على فحص الواقع وفهمه وتجاوزه صار معدودًا في طليعة المبدعين في العالم إن قصة حياة جوركي تستحق التوقف الطويل والتأمل العميق فهذا المبدع عاش منذ طفولته حياة الفقر والجوع فكابد الحياة مبكرًا لقد عانى وكافح فواجه المشاكل بنفسه منذ طفولته وأدى ذلك إلى نضج مبكر وإلى إحساس عميق بالحياة والأحياء إن هذه المواجهة المبكرة مع متطلبات الحياة هي المدرسة الحقيقية وهي الجامعة المؤثِّرة التي تصوغ شخصية الإنسان لتجعله على مستوى المسؤولية وكما قال المفكر الناقد محمود أمين العالم فإن:(الإبداع إنما يستمد جذوره أساسًا من الخبرة المعيشة وما يواجهها من ضرورات وإشكاليات وعقبات) إن أهمية الاحتكاك المبكر بمشكلات الحياة تستوجب مراجعة جذرية للرؤية السائدة في التربية. إن إدخال الأطفال والمراهقين في معترك الحياة مبكرًا في الحدود التي تتحملها بنيتهم هو اتجاهٌ أساسي وضروري غير أن هذا المطلب التربوي الحيوي مازال محجوبًا برؤى ظَهَرَ خطؤها وممارسات جرت بها العادة فلم تجد من يوقفها ولكن سوف يكتشف التربويون والعالم أجمع بأن إبعاد الأطفال والمراهقين عن معترك الحياة والاكتفاء بحشرهم في الصفوف المدرسية قد جنى عليهم أكبر جناية فأبقاهم مغموسين في الفجاجة والهشاشة مع افتقار شديد إلى خبرات الحياة الأساسية.
أما المبدع الفرنسي الشهير إميل زولا فلم يحصل حتى على شهادة المرحلة الثانوية فقد انشغل عن الدراسة بالانغماس في قراءة روسو وهوجو وبلزاك وغيرهم فكوَّن نفسه بنفسه تكويناً متيناً ثم انتقل من الرومانسية إلى الواقعية لقد أبدع في المجال الروائي وفي مجال النقد وكان من كُتَّاب المقالات البارزين وهو صاحب المقال الشهير: ( إني أتهم ) لقد قاد المثقفين لإصدار بيان يدين الأحكام الجائرة ويطالب بالعدل والوضوح والشفافية.
إن المبدع يصنع نفسه بنفسه فربما أن أكثر القراء قد قرأوا للمبدع التشيكي مولدًا، الفرنسي تجنيسًا، العالمي إبداعًا، ميلان كونديرا.. إنه ليس مبدعًا فقط وإنما هو مبدعٌ ومنظِّر ومرجعٌ معتمد في التنظير والنقد الروائي.. وهو لم يتخرج في أية جامعة وإنما درس الموسيقى مدة قصيرة في معهد ولم يواصل لقد هاجر من وطنه تشكوسلوفاكيا واستقر في فرنسا ونال الجنسية الفرنسية وتفرغ لبناء ذاته بذاته ثم أبدع في مجال الرواية والنقد الأدبي إنه أشهر من أن يحتاج إلى المزيد.
شاعر فرنسا الأديب المناضل الفيلسوف فيكتور هوجو لم يتجاوز المرحلة الثانوية في الدراسة النظامية إن هذا الانفكاك المبكر من القوالب التعليمية هو الذي أعطاه هذه القدرة الإبداعية وطَبَعَه بهذا النضال التحرري...
ريتشارد رايت.. مبدعٌ أمريكي أسود معروف.. تشرَّد في طفولته وعمل صبيًّا في مطعم ولكن ذلك لم يمنعه من أن يقرأ بنهم وأن يفكر بعمق، كان يحسُّ بالظلم الذي كان يقع على السود في أمريكا فأنضجته مرارة الإحساس وعلَّمته تجارب الحياة ففاض إبداعًا حتى صار محل اهتمام النقاد والباحثين ليس في الأدب فقط وإنما أيضا في الانثروبولوجيا. يقول عنه عالم الانثروبولوجيا الدكتور أحمد أبو زيد: (كان الكاتب الروائي ريتشارد رايت واحدًا من أهم الكتاب الزنوج) ثم يقول: (كتاباته وأعماله الروائية لاتزال تلقى كثيرًا من اهتمام النقاد والانثروبولوجيين على السواء كما تخضع للتحليل والتقويم بحيث صدرتْ عنه في السنوات الأخيرة خمسة كتب على درجة كبيرة من الأهمية)إن أول قراءتي له كانت في إسهامه الرائع في كتاب (الصنم الذي هوى) قرأته حين كنت في المرحلة الثانوية ثم قرأت روايته الجميلة (الولد الأسود) وهي سيرة ذاتية وقد ترجمها شيخ المترجمين منير البعلبكي.
لايبدع مَن يتبرمج على الاتباع فالعملية التعليمية هي عميلةُ قولبة وصياغة وتعويد على التماثل والامتثال أما المبدعون فيكونون نافرين بطبيعتهم من هذا التذويب الذي يطمس الفردية ويغلق قابليات الإبداع أو يحجبها ويَشغل عنها إن القدرات الإبداعية هي قدرات استثنائية ذات تكوين مركَّب فيجب حمايتها من الإبتذال فهي غير قابلة للتعميم..
إن الإبداع قفزٌ ووثْبٌ واقتحام فالمبدعة الفرنسية الشهيرة جورج صاند ثقَّفَتْ نفسها باقتحام ذاتي مقدام وخاضت المعترك بجسارة وأبحرت منفردة في بحار الفكر والأدب والحياة حتى أبدعت فنالت شهرة واسعة وبقي صوتها الأدبي والاجتماعي مجلجلاً فقد كانت تؤمن أن النجاح في معترك الحياة ليس سبيله حفظ ملخصات مدرسية وإنما كانت تقول : (النضال أو الموت.. الصراع أو الفناء.. هكذا المسألة مطروحة بلا رحمة) لقد خرجتْ من الاستكانة إلى المجابهة ومن قبول الأمر الواقع إلى الإسهام في تغييره فصارت من أعلام الأدب والتحرر.
الأديب الأمريكي الشهير هرمان ملفل.. لم يواصل التعليم النظامي وإنما دخل معترك الحياة مبكرًا وأقدم على المخاطر واجتاز المحيطات وعاش مع الحيتان في البحار ومع ذلك ثقَّف نفسه باتساع وعمق فأبدع ثم بات من أبرز مفاخر أمريكا.
جان جينيه.. مبدعٌ فرنسيٌّ شهير وصَفَهُ الناقد المغربي الدكتور محمد برادة بأنه:(المبدع على غير مثال) إنه لم يتلق تعليمًا منتظمًا وإنما ثقَّف نفسه بنفسه بانطلاق ودون حدود وهو كاتب إنسانيٌّ النزعة وقف مع الجزائر في نضالها ضد وطنه فرنسا ووقف يدافع عن المستضعفين في كل مكان وأدان إسرائيل مرارًا.. إنه مبدعٌ في مجال المسرح ومجال الرواية ويكتب بحرارة عن الاغتراب والمغتربين في كل مكان.
ولو أننا استعرضنا أسماء المبدعين في أمريكا أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا أو في أي مجتمع مزدهر فسوف نجد أنه لايوجد علاقة إيجابية بين التعليم التقليدي والإبداع وإنما العلاقة قد تكون عكسية تمامًا وعلى سبيل المثال فإن المثقفين والمبدعين في إيطاليا تأتي في طليعتهم أربعة أسماء وكلهم انطلقوا منفردين لقد ثقَّفوا أنفسهم بأنفسهم فالفيلسوف الإيطالي الشهير كروتشه اكتفى من التعليم النظامي بالمرحلة الثانوية فأبحر وحده ثم صار واحدًا من أبرز فلاسفة القرن العشرين وحين تم إسقاط موسيليني تم اختياره وزيرًا للتربية والتعليم.
أما المثقف الإيطالي الثاني الذي ثقَّف نفسه بنفسه فصار أحد القيادات الفكرية في العالم كما كان من أبرز المناضلين في إيطاليا فهو المفكر غرامشي.. إن اسمه من أكثر الأسماء ورودًا وتداولاً في الكتابات الإجتماعية وفي الكتابات التي تتناول دور المثقفين في التغيير.
أما المبدع الإيطالي الثالث فهو البرتو مورافيا الذي لم يتلق تعليمًا يُذكر لكنه أبدع فنال جائزة نوبل في الأدب لقد التزمتُ أن لا أذكر هنا أحدًا من النوبليين لأني خصصتهم بمقال آخر لكني اضطررت لذكره كواحد من أبرز المثقفين الإيطاليين الذين اعتمدوا على أنفسهم.
أما المثقف الإيطالي الرابع الذي ثقَّف نفسه بنفسه وخاض معارك الفكر والصحافة والسياسة قبل أن يتجاوز عمره السابعة عشرة فهو أكنازيو سيلوني.. لقد كافح وناضل في مجالات الفكر والفعل فصار واحدًا من أبرز المثقفين النشطاء في العالم.
إن بعض المتسرعين يُلحقون غبنًا بالمبدعين في حين أنهم يعتقدون أنهم يُشيدون بهم ويرفعون شأنهم فحين يكتبون عن وجود مبدعين بلا مدارس أو عظماء بلا مدارس أو نحو ذلك من الكتابات المضلِّلة فإنهم بهذا يقلبون الأصل إلى فرع فالأصل أن الإبداع لايأتي إلا خارج القوالب المدرسية وتجاوزًا للتأطير الأكاديمي لكن طوفان الاهتمام بالشهادات قد حَجَبَ هذه الحقيقة التي يؤكدها تاريخ الإبداع في كل المجالات.
لقد اعتاد الناس أن يسألوا الشخص عن شهادته وليس عن اهتماماته التلقائية العميقة فانقلب التصور وصار الناس يستكثرون أن يبدع من لايحمل شهادة دراسية مع أن الإبداع خارج الأطواق هو الأصل حتى الذين يضطرون لمواصلة دراسة لاتروقهم وإنما من أجل الشهادة لايبدعون إن أبدعوا في نفس مجال الدراسة وإنما يبدعون في المجال الذي يهوونه ويندفعون إليه تلقائيًّا فهذه الكتب ليست غير نافعة فقط وإنما هي شديدة الضرر لأنها ترسِّخ تصورات خاطئة يجب أن تُصحَّح..
إن تعميم التعليم قد أشاع الاهتمام بالمعلومات وجَعَلَها محور العمليات التعليمية وأهمل طريقة التفكير فاعتاد الناس على ذلك وصار يبهرهم الذي يحفظ معلومات كثيرة وبذلك طغى الكم على الكيف ثم جاء الانترنت فأتاح لمن ليس لديه أي تصور عن مقومات الإبداع أن يلتقط بعض أسماء الذين تميزوا من الذين لم يواصلوا تعليمهم وبمحرك البحث في الانترنت يجد عنهم معلومات كافية لكنها معلومات يتم توظيفها باتجاه يتعارض مع التصور الصحيح عن الإبداع ومقوماته.
كان الناس قبل تعميم التعليم يدركون الفروق الفردية كما كانوا يعرفون الفرق بين قدرة القيادة وقابلية الإنقياد وكانوا يعلمون أن قيادة الفكر والفعل هي من نصيب القلة المبدعة وهؤلاء يصنعون أنفسهم أما التعليم فهو يجمع العاديين من المعلمين والمتعلمين أما الإبداع فهو شأن مختلف نوعيًّا ولكن بعد تعميم التعليم صار يجتمع في الفصل الواحد أفرادٌ مختلفون أشد الاختلاف في قابلياتهم وقدراتهم واهتماماتهم التلقائية وقد يكون من بينهم مبدعون ولكن هذا ليس شأن التعليم بل إن التعليم قد يضيق بذوي الاستعداد الإبداعي لأنهم أحيانًا يتلكؤون عن الامتثال ولكن وجود الجميع في فصل واحد وانتقالهم جميعًا من مستوى إلى آخر ثم تخرجهم وحصولهم على شهادات متماثلة أوهَم العاديين أنهم مماثلون للمبدعين وفي الغالب لايكون المبدع في مقدمة الفصل لأنه منصرفٌ إلى اهتماماته التلقائية عن الدراسة الاضطرارية...!!!
*كان الناس قبل تعميم التعليم يدركون الفروق الفردية كما كانوا يعرفون الفرق بين قدرة القيادة وقابلية الانقياد وكانوا يعلمون أن قيادة الفكر والفعل هي من نصيب القلة المبدعة*


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.