حينما نتوقف عند أحد عناوين الصحف العالمية البارزة والذي لا يزال الناس يتداولون ما نشرته صحيفة التايمز الأميركية حينما ذكرت "الشارع السعودي متلاحم مع قيادته وأقوال المعارضين لا يمكن ترجمتها لأفعال"؛ المفارقة أنّنا لم نهلّل للعنوان والكلام كما في دول أخرى لأننا نعلم أنّه من حسن حظّ هذا المجتمع أن مطالبه وطموحاته التي تطارده يقظةً ونوماً تبقى في إطار الولاء لقيادته، حيث لم يستجب لسيلٍ من التحريض العالمي للخروج وركوب موجات "الثورات" التي لم تكن يوماً متفقةً والنسيج الاجتماعي السعودي الذي لم يبن كيانه على أساسٍ غامض أو دكتاتوريات سياسية جاءت عن طريق الانقلابات العسكرية، بل تكوّن نظامه من خلال بيعة القبائل لأسرةٍ مُنحت من قبل الشعب تفويضاً بالحكم، وهي قيمة تشترك فيها دول الخليج. لا شك أنّ في البداية كانت هناك صورة "رومانسية" لما سُمّيَ ب"الربيع العربي" من ناحية سقوط أنظمةٍ على أيدي الشعوب لكنّها قد أخذت في التضاؤل حتى تلاشت، بعد أن صارت صور الدماء تهيمن على المشاهد. صور الدماء والأشلاء نَحّت العاطفة قليلاً وبدأت بتحكيم العقل. غير أن هناك من لا يزالون يمنّون أنفسهم بجذب التوترات ومحاولات إحداث الفوضى إلى المملكة بكل ما تبقى لديهم حيل قد انكشفت على الملأ! تحدثنا ورأينا كيف راهنت قوى حركية على محاولاتٍ عديدة قد فشلتْ ووئدت في مهدها، سواء من دعوات التظاهر، أو الاعتصامات، أو حتى تحريض المجتمع وتأليبه على الدولة وحكومته، كلها وسائل فشلت. حاولت جماعات الإسلام السياسي استنهاض أتباعها وأنصارها للتجييش الشعبي، مقترحةً عليهم استغلال أي خطأٍ يحدث للتحريض السياسي. حاول الكثير من أتباع الحركات أن يحرضوا المجتمع ضد الحكومة معتمدين على أخطاء تحدث في أي دولة، إذ سرعان ما ينفخون بالحدث الصغير البسيط مهما كان تافهاً ليكون مثار سجالٍ طويل، ويريدون بكل وسائلهم أن يربطوا أي خللٍ تقني، أو تقصيرٍ حكومي بالسياسة حتى يتسنّى لهم إثارة الفوضى التي يتمنونها. وقد وجدوا في وسائل التواصل الاجتماعي أفضل وسيلةٍ وطريقةٍ للتعبير عن الذي يختلج في صدورهم من طموحاتٍ سياسية، ويتبين الطموح السياسي لهم من خلال فلتات اللسان، أو الكلمات التي لم يحسبوها جيداً فيتضح المشروع السياسي الذي يغطّى بإطارٍ إسلامي بهدف جمع الناس على آرائهم وإقناع البسطاء بأن ما يقومون به هو الحق والخير، وأن ما يقوم به السياسي هو الضلال المبين، ورغم كل جهدهم الكبير غير أن كل ما بذلوه لم ينجز لهم أي مشروعٍ سياسي في المملكة. من المثير للسخرية بعض أولئك الذين لا يزالون يرددون خلف أصحاب الطرح والخطابات الأممية منذ الثمانينيات وذات الفكر الصحوي يستخدم هذا الأسلوب المنكشف وعفا عليه الزمن؛ لا يريدون أن يدركوا بعد أن الشعب السعودي يبقى معتمداً على الخطاب الوطني لا الخطاب الأممي الحركي الذي نبت في حقول الجماعات التي تتدثر باسم الدين وإنما هي سياسية في حقيقتها، راهن أولئك الحركيون على العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم في السعودية فخذلهم المجتمع في كل محاولاتهم حينما كان يجدد البيعة لقيادته في كل مرة. فعلم الاجتماع يخبرنا أن لكل بلدٍ ظروفه وحيثياته وتفاعلاته الخاصة؛ وحين أجلب "المعارضون" في الخارج محرّضين الناس بكل وسائلهم يدعونهم إلى الخروج و"الثورة" لزم الناس بيوتهم. عبرّوا من خلال هذا السلوك عن رضاهم عن قيادتهم. في دراسة سابقة حملت عنوان:" الشباب السعودي بين جدلية النقد الثقافي والوعي السياسي" وقدّمتُ ورقة فيها بلندن قد توصّلَتْ إلى أن الهاجس السياسي لم يكن حاضراً لدى الشباب السعودي على الرغم من المد الشيوعي، ومن ثم ولادة الإسلام السياسي بعد الثورة الإيرانية سنة 1979 غير أن كل ذلك المد لم يحوّل المجتمع السعودي إلى مجتمعٍ تشغله السياسة مثل بعض المجتمعات الأخرى، بل غلب النقاش الفكري الإصلاحي على العمل السياسي، وهذه من الإيجابيات التي تميز الجيل السعودي. غير أن بعض الحركيين راهنوا على أحداث الثورات مدغدغين مشاعر بعض من عملوا على خداعهم باسم الدين. ومن المفارقات المضحكة كيف كانت بعض الأسماء والرموز الحركية ظلّت تعمل ليل نهار عبر حساباتهم في تويتر بالمزايدة على الشعب السعودي وحكّامه في دينهم وتطبيق شريعته بالتلميع لجماعتهم وأتباعها لإثبات صحة عقيدة من يؤيدهم والنفي لمن يعارضهم، وقد تجاهلوا أن الشعب السعودي متديّن بالفطرة قبل أن تولد جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الحركات والجماعات، إلا أنّها حيلة غبية من حيل المفلسين الخائبين.