رشيد حميد راعي هلا وألفين تحية    بنسبة نضج عالية بلغت (96 %) في التقييم.. للعام الثالث.. السعودية الأولى بالخدمات الرقمية في المنطقة    "المالية" معلنة نتائج الميزانية للربع الأول: 263.6 مليار ريال إيرادات و322 ملياراً مصروفات    أزمة السكن وحلولها المقترحة    "مايكروسوفت" تعلن رسمياً نهاية عهد "سكايب"    الإدارة الذاتية: رمز وطني جامع.. سوريا.. انتهاء العمليات القتالية في محيط سد تشرين    دعت إسرائيل لاحترام سيادة لبنان.. 3 دول أوربية تطالب باتفاق جديد مع إيران    تسلم أوراق اعتماد سفير سلطنة عمان لدى المملكة.. نائب وزير الخارجية وسفير الكويت يبحثان الموضوعات الإقليمية    في إياب دور الأربعة لدوري أبطال أوروبا.. بطاقة النهائي بين إنتر وبرشلونة    شرط من انزاغي لخلافة جيسوس في الهلال    هاري كين يفوز بأول لقب في مسيرته    جمعية الوقاية من الجريمة «أمان»    محافظ جدة يطلع على الخدمات التعليمية لذوي الإعاقة    المملكة تختتم مشاركتها في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025    في أمسية فنية بجامعة الملك سعود.. كورال طويق للموسيقى العربية يستلهم الموروث الغنائي    توقيع مذكرة تفاهم لتعزيز إبداعات الفنون التقليدية    دعوة لدمج سلامة المرضى في" التعليم الصحي" بالسعودية    السديس: زيارة وزير الداخلية للمسجد النبوي تعكس عناية القيادة بالحرمين وراحة الزوار    الصحة النفسية في العمل    حكاية أطفال الأنابيب «3»    وزير الدفاع يلتقي رئيس مجلس الوزراء اليمني    النفط يتراجع مع زيادة إنتاج أوبك+.. وتوقعات بفائض العرض    القبض على (31) لتهريبهم (792) كيلوجرامًا من "القات"    غبار الرياض.. ظاهرة موسمية    انخفاض مؤشرات الأسهم الأمريكية عند الإغلاق    الحرب على غزة: 15 شهيداً.. 550 حالة اعتقال بينها 14 امرأة و52 طفلاً    الفتح يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الوحدة    الفحوصات الطبية تكشف عن إصابة صهيب الزيد بقطع في الرباط الصليبي    جامعة الملك سعود تستضيف مؤتمر "مسير" لتعزيز البحث العلمي والشراكات الأكاديمية    مليون و250 ألف زائر ل"جسور" في جاكرتا    أخضر الناشئات يختتم معسكر الدمام    وزير الرياضة يستقبل أبطال «نخبة آسيا»    جامعة أم القرى تطلق هاكاثون عالمي في مؤتمر السلامة والصحة المهنية.    محاضرات لتعزيز ثقافة الرعاية في مستشفى الملك سلمان    النزاعات والرسوم الجمركية وأسعار النفط تؤثر على توقعات اقتصاد دول الخليج    ممنوع اصطحاب الأطفال    12024 امرأة يعملن بالمدن الصناعية السعودية    تركي بن هذلول: خدمة الحجاج شرف خصه الله بالمملكة حكومةً وشعبًا    وزارة التعليم وموهبه تعلنان انطلاق أولمبياد الفيزياء الآسيوي    "الدعم السريع" يلجأ للمسيّرات بعد طرده من الخرطوم ووسط السودان    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي نائب رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا    الهند وباكستان تصعيد جديد بعد هجوم كشمير    حرس الحدود يختتم معرض "وطن بلا مخالف" في جازان    وزير الداخلية يدشن مشروعات متطورة في المدينة المنورة    علاج أول حالة ارتفاع دهون نادرة في جازان    أمير منطقة تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    إنهاء معاناة طفل من جلطات دماغية متكررة بسبب مرض نادر    أمير منطقة الجوف يلتقي أهالي محافظة دومة الجندل    زوجان بنجلاديشيان .. رحلة من أمريكا إلى مكة المكرمة    إطلاق مبادرة المترجم الصغير بجمعية الصم وضعاف السمع    من جيزان إلى الهند.. كيف صاغ البحر هوية أبناء جيزان وفرسان؟    سعد البريك    سوريا بين حرب أهلية ومشاريع تقسيم    الرفيحي يحتفي بزواج عبدالعزيز    الأمير سعود بن جلوي يتفقد مركز ذهبان ويلتقي الأهالي    "الشؤون الإسلامية" تنفذ برامج التوعية لضيوف الرحمن    "المنافذ الجمركية" تسجل 3212 حالة ضبط    أمير جازان يستقبل مدير عام فرع وزارة العدل بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من مراكش إلى منهاتن

من مدينة يشكل التاريخ كل مفاصلها ويعيدك فيها إلى البدايات وينقلك نقلة "سينمائية" زمنية تجعلك في عمق القرون الوسطى وتفصلك حضارياً عن زمن الآلة وسطوة المادة، تنتقل بعدها مباشرة إلى مدينة ترمز لمادية الثقافة المعاصرة ووحشيتها، لابد أن يحدث هذا الانتقال صدمة ثقافية وبصرية واهتزازاً في المشاعر ويحث على إجراء المقارنات التي لا تنتهي. بعد رحلتي الطويلة إلى مراكش والعودة في اليوم التالي إلى الرياض كان يجب أن أسافر إلى "نيويورك" فقد رزقت بحفيدة وكنت مخططاً منذ فترة طويلة أن أكون في الولايات المتحدة في هذه الفترة، وزيارة مراكش كانت عرضية ومفاجئة ولم أخطط لها أبداً. كان خط سير العودة هو السفر من مراكش بالسيارة فجراً إلى الدار البيضاء لمدة ساعتين وفي الساعة السابعة والنصف صباحاً الرحلة إلى باريس ثم بعدها إلى الرياض حيث وصلت العاشرة مساء. ربما يسأل البعض ولماذا لم أسافر من الدار البيضاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة؟ وردي ببساطة هو أن زوجتي كان لابد أن تكون معي لرؤية
كنت أسأل نفسي هل نحن بحاجة إلى أن نعيش في مدن متوحشة مثل هذه؟ هذا السؤال لن أستطيع الإجابة عليه لأنه مرتبط بمفهوم الحضارة الإنسانية الذي دائماً يتطلع للجديد دون سبب أو حاجة ملحة لكنها فطرة الإنسان الخلاقة التي لا تستقر ولا تسكن
حفيدتها وكانت هذه هي الخطة الأساسية ولم يكن هناك متسع من الوقت لاصطحاب أم محمد معي إلى المغرب وإعادة ترتيب الرحلات إلى أمريكا فكان أنسب حل هو العودة إلى الرياض ثم السفر فجراً إلى "نيويورك". الرحلة شاقة لكنها فرصة للمقارنة فقد زرت أربع قارات خلال يومين. والحقيقة أنني كنت قلقاً من ساعات الطيران الطويلة ومروري من نقاط التفتيش خصوصاً في الولايات المتحدة وفي مطار "جي أف كنيدي" في نيويورك، لكن كل هذه المخاوف تبددت وكان دخولي للولايات المتحدة سلساً ولم أجلس أكثر من 20 دقيقة في المطار وبعدها انطلقت إلى "التايمز سكوير" في وسط منهاتن حيث يوجد الفندق الذي حجزته للسكن مسبقاً.
ليست المرة الأولى التي أنزل فيها ضيفاً على "نيويورك" فقد سكنت في "الداون تاون" ماريوت عام 1999م وكان يقابل شباك غرفتي "مركز التجارة العالمي" وأذكر أنه في أحد الليالي كان أخي متعباً وكنت مضطراً أن أخرج أبحث له عن دواء يحتاجه ولم تكن هناك صيدلية تعمل إلا في مركز التجارة وذهبت لها مشياً غلى الأقدام وكان ذلك الساعة الثالثة فجراً وكنت أسمع أن "نيويورك" مدينة خطيرة لكني لم أشعر بهذا الخطر وعرفت بعد ذلك أن المجلس البلدي في المدينة عمل خلال سنوات على تغيير سمعة المدينة وأصبحت من أكثر الحواضر الكبرى أمناً.
كان ذلك منذ خمسة عشر عاماً لكني لم أفكر خلال الأعوام الماضية بعد 11 سبتمبر أن أزور أمريكا أبداً، حتى أنني أذكر مرة أنني والدكتور عيسى الأنصاري مدير جامعة الأمير محمد بن فهد الأهلية، وقد كنت نائباً للمدير في ذلك الوقت، كنا سنقوم بزيارة عمل إلى "لاس فيغاس" وتأخرت الطائرة في لندن ولم نستطع اللحاق برحلة "فيغاس" فقررنا البقاء في لندن، وكان لنا عمل في طريق العودة في هذه المدينة فبقينا فيها طوال مدة الرحلة، لأننا لم نكن متحمسين للذهاب للولايات المتحدة. مخاوف لم يكن لها أساس لكن ليس من سمع كمن رأى وجرب. هذه المرة كان لزاماً أن أكون مع ابني وأرى حفيدتي الأولى، وكنت أقول في نفسي"جاك الموت يا تارك الصلاة" واكتشفت أن كل مخاوفي أوهام عندما ركبت "التاكسي" الأصفر وصرت أتحدث مع السائق الهندي وأقول له "ماريوت ماركس، برودواي".
صور مراكش مازالت تملأ مخيلتي وأنا أقتحم "نيويورك" بالسيارة الصفراء وقد كنت نمت عدة ساعات أثناء الرحلة التي امتدت إلى 13 ساعة ونصف وكنت أرغب في رؤية ماذا تغير في هذه المدينة "المتوحشة" لكن يصعب تبين الفرق في مدينة مثل "نيويورك"، بل يستحيل اكتشاف أي فرق، فهذه مدينة بنيت منذ فترة طويلة وأي إضافة غير محسوسة، مهما كانت متميزة. في مراكش كان المقاس إنسانياً وبسيطاً وكانت الأفنية مبهجة وتحث على الاسترخاء والتأمل، وكنت أثناء طريقي إلى الفندق مازلت أعيش أجواء المدينة التاريخية وعبقها الذي لا ينسى ولم أكن مستعداً بعد للاصطدام بثقافة الكتل العمرانية التي تناطح السماء. علاقتي بمراكش كانت إنسانية بحتة، تدفعني للبحث في التفاصيل وتأمل النقوش والزخارف والأبواب، لكن في "منهاتن" يصدمك للوهلة الأولى جدار ممتد من ناطحات السحاب يشكل خط سماء المدينة من بعد. لا أكذبكم القول أن قلبي قد انقبض وأنا أرى تلك الكتلة التي صارت تحاصر عيني وتختلط بصور مراكش الإنسانية البسيطة. المشهد بالنسبة لي كان مربكاً رغم أنني كنت أتوقعه بل وأعرفه فقد رأيته مسبقاً، لكن هذه المرة لم يمضِ على خروجي من مراكش إلا سويعات قليلة ولعل هذا ساهم في زيادة الإرباك "البصري" و "الحضري" الذي شعرت به في تلك اللحظة.
لابد أن أتحدث هنا عن "عمارة الجشع" التي أشاعتها "منهاتن" في العالم، وكيف أن هذه العمارة انتشرت وأصبحت هي الثقافة الحضرية السائدة. هذه العمارة تتقاطع مع مكامن الثروة والمال وتدفع بالمدينة للتحول إلى كيان صناعي مزيف، يفتقر لأي لمسة إنسانية، لذلك أصبح من الضروري التمسك بما تبقى من مواقع التراث العمراني وتحويلها إلى أماكن للحياة، لأنها هي المهرب الوحيد المتبقي للناس بعد هذه السطوة العمرانية المادية التي جعلت من فضاءات الحياة "أماكن ربحية" لجني المال وتراكم الثروات. هذه الهواجس كانت تطاردني وأن أقف أمام مبنى الفندق الضخم، وكل المباني المحيطة ضخمة ومرعبة، الاستقبال كان في الطابق الثامن وغرفتي كانت في الطابق 23 وتطل جزئياً على "التايمز سكوير" والفندق يتكون من أكثر من 1200 غرفة. في منهاتن هذه هي الثقافة السائدة، فعلى بعد خطوات توجد الساحة التي تترصع واجهات مبانيها بشاشات الإعلانات التجارية، وتمتد بشكل لا نهائي على جميع مسارات الطرق الأفقية المرقمة أو الرأسية التي تمتد من "الدوان تاون إلى الأب تاون" والتي منها "الففث أفنيو" وأنا ساكن على "السفنث أفنيو" أي الجادة السابعة التي يتقاطع معها شارع "البرودواي"، فضاء المسارح والسينمات، بشكل عفوي.
إنها مدينة لا تنام تتقاطع فيها كل الثقافات والأعراق ولكن بالنسبة لي مجال السماء فيها ضيق جداً فكل ما تسمح به ناطحات السحاب التي تقف كأسوار شامخة على طرفي الجادات هي الطاقات المفتوحة الوحيدة فشكل السماء تحدده الفراغات البسيطة بين ناطحات السحاب. والحقيقة أنني كنت أقارن فناء الفندق المراكشي الذي كان يربطني بالسماء بشكل مباشر، بهذه الفتحات الضيقة التي كانت تتيحها الأسوار التي تناطح السحاب في كل شوارع منهاتن. إحساس بالضيق تبعثه هذه المدينة داخلي كلما رفعت عيني للأعلي، وقد كنت أسأل نفسي هل نحن بحاجة إلى أن نعيش في مدن متوحشة مثل هذه؟ هذا السؤال لن أستطيع الإجابة عليه لأنه مرتبط بمفهوم الحضارة الإنسانية الذي دائماً يتطلع للجديد دون سبب أو حاجة ملحة لكنها فطرة الإنسان الخلاقة التي لا تستقر ولا تسكن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.