الذكاء حميد ، وعند بعضهم.. الغباء أحمد..! للفرنسي الأشهر " ميشيل بوتور" أحد رموز الرواية الجديدة قصة طريفة كانت قد ترجمتها في الستينيات الدكتورة سامية أحمد أسعد - رحمها الله -. القصة عنوانها " عابر الجدران" وبطلها، ذلك القادر على العبور باختراق الجدران موظف صغير وضعيف كان يلاقي من المدير كل صنوف الاضطهاد والسخرية حد أنه كان يستدعيه أمام ضيوفه لتقديم القهوة ليطلعهم على فداحة غبائه كموضوع للتسلي. ضاق الموظف بالعمل وبنفسه فترك العمل واختفى . وذات يوم كان المدير بمكتبه الفاره وحده يتأمل موقعه وما صار اليه سريعا وارتقى السلم في قفزات يتخطى بها مع كل درجة منه رئيسه الى أن تربع على تلك القمة. كان سعيدا بنفسه وبذكائه الخارق الذى أحكم له خططه في التآمر على رؤسائه وتجاوزهم قائلا لنفسه إنهم كلهم أغبياء، وبينما هو في غمرة الانتشاء يتحرك بكرسيه يمينا ويسارا وقع بصره على الجدار المواجه له فإذا برأس الموظف الصغير يخترق الجدار ويحدق فيه بسخرية مخيفة، ثم يضحك ويلقي مع انصرافه بكلمة تصيب العظام : " يا غبي " . جن جنون المدير وضغط كل الأجراس فهرع اليه الحراس والموظفون، هب فيهم صارخاً : " من أدخل هذا الغبي هنا ؟ أمسكوا به هو خلف هذا الجدار " . عادوا جميعا بعد البحث ليخبروه أن لا أحد هناك، ومع ازدياد التوتر غادر المدير الى منزله غير قادر على استيعاب ما حدث. في اليوم التالي حيث كان المدير في اجتماع مع شخصيات مهمة أطل وجه الموظف مع نصف جسمه من جديد من الجدار صائحاً " غبي ووصولي ومنافق " . اطمأن المدير أن أحدا غيره لم يره ولم يسمعه وفض الاجتماع على عجل وانصرف. وفي اليوم التالي شق الموظف الجدار ودخل اليه بكل جسمه متقدماً تجاهه فانطلق صارخاً خارج المكتب ولا أحد يدري ما أصاب الرجل من جنون مفاجئ، لكن الموظفين راحوا يجتهدون في إيجاد تفسير مناسب، بعضهم قال: ان الرجل تلبسه جني فغدا سلوكه بهذه الغرابة وبعضهم أرجع الأمر الى معاناة منزلية يخفيها ولكنها تضغط عليه بين حين وآخر، لكن الجميع أجمعوا على عدالة الجزاء بسبب ما لجأ اليه من التآمر على الطيبين المسالمين. تكرر الموقف يوميا مع المدير فازداد انهياره مرة بعد أخرى، ثم أرشده تفكيره الى الذهاب الى الموظف في منزله وإعادته للعمل ومحاولة استرضائه فوجده قد ترك البلدة كلها واختفى.. اضطر المدير بعد أن فسدت كل حياته الى المجاهرة بالسر لصديق قريب يثق فيه. قال له الصديق إن ما تراه ليس هو الرجل الضعيف الذي بالغت في إذلاله، ولكنه صورة لضميرك تلبست وجه آخر من ظلمت، فالضمير وحده هو القادر على عبور الجدران.. سأله المدير وكيف أرضي ذلك الضمير؟ رد الصديق: لو فعلت لعدت الى مرتبة بسيطة هي جدارتك، لأنك وصلت الى ما وصلت اليه اغتصابا وتسلقا على أكتاف الطيبين . قال المدير: لقد وصلت بذكائي وغبائهم فرد الصديق: لكن ضميرك يرى أن من تركوك أذكياء لأنهم ترفعوا على كل شيء، وأنك غبي كما قال لك لأنك قبلت. وغاب المدير لحظات مطولة في تأمل مذهول وهو يتصور تهاوي كل شيء حوله، ثم استجمع نفسه ليقول: بطبيعة الحال الذكاء شيء محمود، فإن كان ما أوصلني الى ما بلغت هو غبائي فيا له من غباء أحمد.. كنت أعيد قراءة قصة ميشيل بوتور، وأتأمل كم لدينا في زماننا هذا ممن يحملون نفس القناعة بأن الذكاء حميد والغباء أحمد في محاولة لمهادنة ضمير لا يستريح.