يبدو أن الهوس المرَضيّ بالمظاهر والاستهلاك والسطحية وحبّ الترويح عن النفْس، عوامل لا يُستهان بها، تطغى راهناً -في عددٍ من مجتمعاتنا (المتحوّلة)- على الثقافة، لأسباب عدّة، بينها: ما يبثه معظم الإعلام المرئيّ على مدار الساعة ومدى تأثيره على العقول واللاوعي، والتربية، والبيئة الاجتماعية، وأُطُر التعليم التلقينية الجامدة المتخلّفة والرخوة عندنا، التي صارت تُخرّج بمعظمها متعلّمين ليسوا بمثقفين في غالبيتهم، وبعض الإسفاف النافر في وسائل التواصل الاجتماعي، إلخ. ممّا لا ريب فيه أن ضغوط الحياة وإيقاعها اليوم، إضافةً إلى السائد والدارج –في العالم عموماً وهنا خصوصاً- وتطوّر التكنولوجيا، تدفع نحو قراءات أقل عمقاً، وإلى التشبّث بالقشور على حساب الجوهر، زمنٌ نعيش فيه ونحار في كيفية التعامل معه. هناك تحدٍّ كبير يكمن في جعل الثقافة بمتناول الجميع وفي جعلها تلامس الجميع، وفي جعل المعرفة معرفةً مرحة نسبيّاً، معرفةً تفتح الشهيّة، معرفةً أخّاذة، متجدّدة، متنوّعة، مؤسلَبة، مبسَّطة، محبَّبة إلى النفوس. جانبٌ من المشكلة كامنٌ جزئياً في الجرعة العالية من جدّية الثقافة ونبرتها المتخمة، وصعوبتها، وتعاليها في بعض الأحيان، وميلها مراراً إلى السوداوية أو الدرامية وما يعتّم القلب. لماذا لا تتحوّل المادّة الثقافية إلى مادةٍ تحثّ على الانشراح، ولو نسبياً، لتصبح مرغوبةً أكثر؟ هذا التحدّي مسؤولية الجميع لكسب الرهان الثقافيّ، وللارتقاء والتقدّم في أوساط ومناخات تنمّ، في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة، عن تراجعٍ واضح لدى العامّة، إنْ لم نقل عن انحطاطٍ جليّ (مع وجود إستثناءات نقدّرها هناك وهنالك). كذلك، لا بد من الحضّ حتماً على ثقافة السؤال أي الحثّ على استنباط أسئلة جديدة ربطاً بالزمان والمكان والإشكاليّات الملحّة والتحوّلات والحاجة، بدلاً من تناقل الأجوبة الجاهزة المعلّبة ببغائيّاً عبر الأطر المعرفية المنمَّطة. لا بدّ من مساءلة الواقع واستنطاقه للتطلّع إلى غدٍ أفضل وللبدء في بنائه والقفز نحو الأعالي عبر البناء المعرفيّ. في جانبٍ ما، ثمّة ما ينادي الملل عموماً في ما نطالعه ونشاهده ونتلقّاه عبر الوسائل والقوالب المعرفية الموغلة في تقليديّتها أو كلاسيكيّتها، شكلاً ومضموناً. وقد قال فريدريش نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر» (الفصل الرابع- أقوال وفواصل): «كلّما كانت الحقيقة التي تريد أن تعلّمها أكثر تجريداً، وجب تزيينها لإغواء الحواس». من جهةٍ أخرى، ونظراً لضيق النفَس بوصفه ظاهرةً لافتة تستحقّ التأمّل والدراسة في عصرنا، لا بدّ من الاختصار أو على الأقل من تجزئة وتقسيم المواد الطويلة أكانت سمعية، بصرية أم مكتوبة. التوسّع أو التطويل لم يعد سهل البلع، بل صار منفّراً. بديهيٌّ القول، إنّ الثقافة تشتمل على جميع السمات الروحية، والمادية، والفكرية، والعاطفية التي تميّز مجتمعاً بذاته، أو فئة اجتماعية بعينها، وتشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونُظُم القيَم والتقاليد والمعتقدات.. (تعريف «اليونيسكو»). لذلك، وانطلاقاً من أهمّيّتها المحورية حضارياً وإنسانياً، لا بد من جعلها مستساغة مستطابة، ولا بدّ من محاولة استقطاب الناس ثقافياً، لا سيما الشباب. ما يستلزم بالضرورة ابتداع طرائق مستحدَثة في سبيل تحقيق هذا الهدف السامي في زمنٍ شائك يختلط فيه الحابل بالنابل، وحيث ينحدر المستوى دراماتيكياً، باستثناء الأطر والأوساط والأفضية الرحبة التي تبثّ وتنشر نور الأفق ببهاء سعتها وطاقاتها النوعية، والتي ينبغي أن تزداد وتتكاثر. *كاتبة وناقدة وشاعرة.