تعتبر المتاحف مؤسسات ثقافية تعكس هوية الشعوب وتاريخها ولها دورها العلمي والتعليمي، وعلى الرغم من ذلك إلا أنها تواجه قضايا أخلاقية معقدة تتعلق بالمُلكية، والشفافية، والأمانه في التعامل مع ما تحتويه من كنوز إنسانية. منذ عقود تزايدت، الأصوات التي تطالب بإعادة القطع الأثرية المنهوبة من بلدانها الأصلية بعد أن نُقلت إلى المتاحف الغربية خلال فترات الاستعمار. تتذرع المتاحف الغربية بأن بقاء هذه القطع لديها يضمن حمايتها وإتاحتها ل»جمهور عالمي»، لكن هذا المنطق يتجاهل بُعداً جوهرياً ألا وهو أن حفظ التراث لا يعني امتلاكه، وأن العدالة الثقافية لا تتحقق إلا بإعادته إلى سياقه الحضاري الطبيعي، إذ لا يمكن تبرير امتلاك تاريخ الآخرين باسم الحماية. فحجر رشيد في المتحف البريطاني، والبرونزيات النيجيرية في برلين على سبيل المثال لا الحصر، ليستا «معروضات» إنما تُعدّ «رموزاً» لحقبة مثّلت ذروة التفاوت الثقافي وهيمنة القوة الإمبريالية. غير أنها في الوقت ذاته مهّدت لنشوء وعي نقدي متنامٍ تجاه مخرجاتها يُبشر بتحولات في بُنية الفكر والخطاب الثقافي تُعيد له توازنه، فقد أعادت ألمانيا منذ عام 2022 المئات من برونزيات مملكة بنين إلى نيجيريا، وهذه الخطوة تُعدّ تحولاً نوعياً في الفكر المتحفي، إذ انتقل من منطق «الامتلاك» إلى منطق «الاسترداد». ومع ذلك، ما تزال مؤسسات كثيرة مترددة في اتخاذ المسار ذاته، وكأنّ الاعتراف بالحق في الاسترداد تهديد لشرعية تاريخها الخاص، لذا تبقى المسألة مفتوحة بين من يرى في إعادة القطع واجباً أخلاقياً، ومن يخشى أن يخلو رصيد متاحفِهِ من الرموز الحضارية. في خضمّ هذا الجدل، يبرز دور المملكة العربية السعودية كفاعل ثقافي جديد يسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين المتحف والتاريخ الثقافي من خلال مبادرات تعيد التوازن إلى الحوار العالمي حول التراث، ففي مؤتمر موندياكولت 2025 الذي عُقد في برشلونة برعاية اليونسكو، دعمت المملكة العربية السعودية إطلاق مشروع «المتحف الافتراضي للقطع المسروقة»، وهو مبادرة طموحة تهدف إلى رقمنة ووصف القطع الثقافية المسروقة والمفقودة في قاعدة بيانات مفتوحة للجمهور، والتي تعتبر خطوة نوعية نحو الشفافية الثقافية. يُمكّن هذا المتحف الافتراضي الزائر من التجول بين قاعات رقمية مثل: «قاعة العرض» و»قاعة الاسترداد»، ومطالعة قصص القطع وشهادات المجتمعات التي سُلبت منها. هذا المشروع يُعيد تشكيل الوعي العالمي حول مفهوم الملكية والعدالة الثقافية. لكن «الأخلاقيات المتحفية» لا تُختزل في قضية المسروقات وحدها، فثمة جانب آخر أكثر خفاءً يتعلق بسلوك العاملين في المتاحف. على الرغم من أنّ جمع العيّنات يُعدّ جزءاً أساسياً من العمل العلمي في المتاحف خصوصاً في مجالات التاريخ الطبيعي والأنثروبولوجيا، إلا أنّ بعض العاملين في المتاحف قد يمارسون الجمع لأغراض شخصية، فيجمعون عينات لأنفسهم أو يحتفظون بقطع نادرة ضمن مجموعاتهم الخاصة متذرعين بدافع البحث العلمي أو حب المعرفة. حين يمتلك الباحث أو القيّم عينات خاصة في مجال تخصصه، تنشأ منطقة رمادية بين المصلحة الشخصية ومتطلبات الواجب المؤسسي، مما يثير تساؤلات حول حدود المُلكية الفردية والمسؤولية المشركة في البحث العلمي. وقد شهدت مؤسسات عالمية حالاتٍ جَمَعَ فيها الموظفون عيّنات لحسابهم الخاص، أو استبدلوا قطعاً أصلية بأخرى مزيفة، ما أضعف الثقة في مصداقية المتاحف كمؤسسات علمية ووضعت سمعتها على المحكّ. لهذا اتخذت متاحف عالمية إجراءاتٍ صارمة، تُلزم موظفيها بالإفصاح عن كل ما يمتلكونه من عيّنات قبل تعيينهم في المتحف، بل وتمنعهم أحياناً من شراء أو جمع أي مواد تتصل بتخصصهم البحثي/العلمي. أمّا مؤسسات أخرى، فسمحت بالجمع الخاص بشروط واضحة أبرزها أن تُعرض العينات على لجان علمية تابعة لإدارة المتحف لتحديد أهميتها ومدى أحقية المتحف في ضمها إلى مجموعاتها العامة. إن اتباع مثل هذه السياسات يهدف إلى حماية سمعة المتحف، وضمان نزاهة المعرفة التي يُنتجها، ويحقق التوازن بين الحرية الأكاديمية والمسؤولية الأخلاقية. إنّ هذه الإشكالات الأخلاقية التي تحيط بالمتاحف، سواء في استحواذها على تراث الشعوب أو في إدارتها لمجموعاتها الخاصة، تكشف عن صراعٍ خفيّ بين (العلم والسلطة) كالمتحف الذي يبرر احتفاظه بحجر رشيد باسم الدراسة العلمية، وبين (المعرفة والمُلكية) حين تتحول المعرفة إلى ذريعة لامتلاك ما يُفترض أن يُصان فيصبح سلعةً لا رسالة تعليمية. من هنا تبرز الحاجة إلى حوكمة مُتْحفية واعية توازن بين الأمانة العلمية والعدالة والإنصاف الثقافي، وتعيد للمتحف دوره الأخلاقي قبل الجمالي. إن المتحف الحقيقي هو الذي يربط بين (المعرفة والمسؤولية) كما تفعل المتاحف التي تعيد القطع المنهوبة لبلدانها الأصلية إدراكاً منها أن المعرفة التزام لا امتياز، وبين (الحفظ والمشاركة) بحيث لا تكتفي المؤسسة المتحفية بالحفاظ على التاريخ بمعزل عن الجمهور إنما تجعل هذا التاريخ متاحاً لهم كما في مبادرة «المتحف الافتراضي للقطع المسروقة». أخيراً أقول: إنّ قيمة المتحف ليست في «كمّ» ما يعرفه ويحتويه إنما في «كيف» يستخدم هذه المعرفة. عندما توضع القطعة الأثرية في سياقها الصحيح تتحول من جماد تاريخي أثري إلى شهادة حية على تاريخ الإنسان وعلاقته بما يملك وما يصون، وكلما ازداد المتحف صدقاً في تمثيل هذه العلاقة، اقترب من جوهر وظيفته الأولى، حين يترك التاريخ يتحدث من خلاله ولا يحتكره، عندها يصبح المتحف فعلاً من أفعال الوعي الإنساني.