هل سبق أن تجمّدتْ كلماتك يومًا أمام هائل مشاعرك؟ أو أنك بتّ تبحث عن جملة تفي بما تشعر به فلم تجدها؟ أو عن عبارة تليق بما يضجّ في داخلك غير أنّ اللغة ضاقت فجأة، وبدت الكلمات وكأنها قوالب صغيرة لا تسع المعنى الكبير المتلاطم داخلك؟ كم مرة وجدتَ نفسك تعود من تجربة عميقة مؤثرة محاولاً وصفها لأحدهم، غير أنّ الكلمات تخرج مبتورة وسطحية لا تعكس حتى ذرّة من عمق تلك التجربة؟ الأمر ذاته في المواقف المفصلية من الحياة، حين يتجلّى هذا العجز بوضوح في لحظات الفقد، فتكشف عن قاموس اللغة فلا يُسعفك للتعبير عن الألم. أو في لحظات الفرح عندما تشعر أنّ ما تقوله ليس سوى ظلاً باهتًا لما تشعر به حقًّا. إنها لحظات يفيض فيها المعنى حتى لا تسعه اللغة. وكأنك قد اصطدمت بحاجز صلب لم يكن سوى حاجز اللغة ذاتها، فتقف عند حدود الكلمات لتشعر أنها تخونك، وأنّ ما يعتمل في الداخل أعظم بكثير من ما يجري على لسانك. وأنّ المعنى الحقيقي يغرب بعيدًا عن متناول لفظك. تلك هي غربة المعنى؛ حيث يخذلك تكميم اللغة، فيمتلئ القلب بما لا تحتمل الحروفُ صناعتَه، ويتعاظم العقل بما لا يستطيع البيانُ صياغتَه، فتجد نفسك غريبًا أمام لغتك، عاجزًا عن منح التجربة صوتًا يليق بها. إنها تلك الفجوة الواسعة بين ما تعيشه في صخبك الداخلي، وبين ما تستطيع البوح به في صمت عالمك الخارجي. لقد أدرك الفلاسفة منذ القدم أن ثمّة مسافة بين التجربة الداخلية وأدوات التعبير عنها. حيث رأى هايدغر أن اللغة "بيت الوجود"، لكنه بيت ضيّق لا يسع لإقامة كلِّ مشاعرك. تماما كما رآها فتغنشتاين عندما قال: "حدود لغتي هي حدود عالمي". وكأن اللغة مهما اتسعت تظلُّ عاجزة عن القبض على جوهر التجربة الإنسانية. إذ لا نصف الأشياء كما نحسّها، بل كما تسمح لنا اللغة فقط أن نصفها. فتبدو اللغة كما لو كانت تُضيء جانبًا وتترك جوانب أخرى في العتمة. ذاك أنّ ثمّة جذورًا عميقة لهذه الغربة في طبيعة اللغة. فاللغة نظام من الرموز المُتواطَأ عليها، وهي بطبيعتها عامّة ومشتركة. لكن تجاربنا تبقى فردية وفريدة من نوعها. فكيف لكلمة "ألم" أن تُحيط بكلّ ما يعنيه الألم لكلِّ شخص على حدة؟ وكيف لكلمة "فرح" أن تنقل ارتعاشة القلب الفريدة التي يشعر بها إنسان في لحظات نشوته الخالصة؟ إننا نصف الألم فلا نُصيب وجعه كلّه، ونكتب عن الفرح فلا نبلغ وهجه جُلّه. فاللغة تُقدِّم لنا صناديق جاهزة، بينما مشاعرنا وأفكارنا كائنات حيّة لا تكفُّ عن التشكّل، وتأبى أن تُحشَر في صندوق. والأكيد أنّ عصرًا يتسارع فيه الزمن قد أفضى إلى هذه الغُربة. فاللغة اليوم تُختزَل في رموز سريعة وإشارات عابرة كإيموجي يختصر جملة، وصورة تحلّ محل خطاب، ومع هذا الاختزال يتقلّص المعنى، ويتحوّل إلى شظايا لا تُعبّر عن روح التجربة. فاختزال الكلام لا يُلغي الحاجة إلى المعنى العميق، بل يزيد من غربته. ولذا كان هذا العجز سببا في لجوء الإنسان إلى الإبداع لِلَملمة بعض المعاني التائهة. فالشِّعر على سبيل المثال ليس مجرّد ترف لغوي، بل محاولة لالتقاط المعنى الهارب. والفن بمختلف صوره يمدّ اللغة بأجنحة تُحلِّق في المعاني، ويضيف إليها ما لا تستطيع الكلمات وحدها أن تحمله. إنّ غربة المعنى لا تعني الكتمان ومن ثمّ ضياع المشاعر سُدى، بل هي دعوة للتأمل في حدود اللغة وقدرتها. ومع ذلك قد يُطلّ الصمت خيارًا أخيرًا. إذ الصمت ليس فراغًا، بل مساحة يقول فيها المعنى ما تعجز عنه الكلمات. فأحيانًا يكون الصمت أبلغ تعبير عن الحب، وأصدق تجسيد للحزن، وأعمق تجلٍّ للحكمة. فحين تعجز اللغة عن الإمساك بالمعنى يظل الصمت مُحتويًا إياه كُلّه. وربما فيه يكمن المعنى ذاته مُتحررًا من القوالب اللفظية، ومُقيمًا في التجربة الإنسانية الصافية. ختامًا يبقى المعنى أوسع من اللغة، وتبقى غُربته حتميّة إنسانية، لكنّها أيضًا دافع لمواصلة البحث عن تعابير أصدق وأعمق. فربما لا نستطيع أن نقول كلَّ ما نريد، لكننا نستطيع أن نترك مساحات مفتوحة بين الكلمات لتسكنها التجربة. إذ في المسافة بين القول واللاقول يظل المعنى حيًّا، ويذكّرنا أنّ الإنسان أقدر مَن يسدّ الفجوات، وأنّ اللغة تظل محاولتنا الأجمل للعبور إلى الآخرين. وأنّ الاعتراف بغربة المعنى ليس توهانًا، بل إنّه خطوة نحو تواصل أكثر صدقًا. فعندما نقول لشخص: "كلماتي لا تستطيع أن تُعبّر عن ما أشعر به" نكون قد عبّرنا بطريقة ما عن أعمق ما فينا. وهكذا تظلّ غُربة المعنى شاهدًا على غنى عالمنا الباطن، وبأن بعض أعظم الحقائق تبقى صامتة فينا، وتنتظر أن نكتشفها بالوجود نفسه لا بالكلمات.