يقول أستاذ اللسانيات وعلوم اللغة في جامعة باريسالشرقية مانغونو (Maingueneau): «إنّ كلّ تواصلٍ مكتوب ما هو إلا تواصلٌ هش»؛ حيث إنَّ المتلقي لا يُشارك المتلفظ مقام تلفظه، وقد شبَّه إيكو (Eco) طرح كتاب على الناس بإلقاء قارورة في بحر، فثمّة في نظره انعدامُ تساوقٍ بين موقعي التلفظ والتلقي. وكأنّ المكتوب يُشبه خطابًا نائمًا إلى أن يُوهب قارئًا ما فيُوقظَه من سباته، على أنّ ملامح هذا الإيقاظ تتفاوت من قارئ لآخر بحسب كفايته اللغوية والموسوعية، وبحسب لحظة الوعي القرائي وصور التفاعل مع المقروء، ولذا تُعرِّف كاثرين سنو فعل القراءة بأنّه: «عملية تحويل الرموز إلى معنى حي عبر التفاعل بين القارئ والنص والعالم». وعليه وبحسب ظني من زاوية أخرى فإنّ معيار ثقافة الجماعة اللغوية لا يُقاس بكمِّ النصوص المنتجَة أو تلك القوارير الملقاة في البحر، بل بحجم القراءة والتفاعل مع المقروء تحديدا، فهو ما يُعيد جدولة أفكارنا في قائمة المقبول والمرفوض، والمفيد وغير المفيد، وهو ما يُمحّص طرائق تفكيرنا بشكل جيد، الأمر الذي يخلق تفاعلاً ثقافيًّا. ولو ذهبنا أبعد من ذلك إلى حيث تصوّرات هوسرل باتجاه الفينومينولوجيا، فإنّ فعل القراءة وفق خبرة القارئ الواعية هو ما يَمنح المعنى للمكتوب وليس المكتوب في ذاته، ولذا فإننّا نتمايز في تمثّل لحظة القراءة كما نتمايز في تكشّف المعنى الذي ينفطر أمامنا بناء على خبرتنا أو تجربتنا الواعية في ذات اللحظة. فالمكتوب وفق منظور مانغونو يفتقد طاقة اللحظة وحيويّة الصوت؛ إذ يبدو كتوثيق لغياب المتكلم، وتعليقٍ للصوت في الزمن؛ ولعلّ مقولة مانغونو تأخذنا بطريقة أو بأخرى إلى جزء من نقد رولان بارت قبله لمفاهيمَ من قبيل المؤلف واللغة والخطاب، كما يتّضح في أعماله التي قدّمها: «موت المؤلف» و»درجة الصفر في الكتابة». فرولان بارت لم يكن يرى في المكتوب فعلاً لغويًّا، بل كان يُقدّم نقدًا جذريًا لمركزية الكاتب والصوت الحي في إنتاج المعنى، على اعتبار أنّ المكتوب يفصل بين المتكلّم وكلامه بخلاف الخطاب الشفوي الذي يحمل حرارة اللحظة وتوقيع الذات الحاضرة، فالمكتوب لا يحمل نبرة الصوت ولا نوايا المتكلم المباشرة، لذا فهو مفتوح على تأويل لا ينضبط بمرجعية واحدة. ولعلّ هذا المفهوم يفتح الباب واسعًا على تقاطعاتٍ مفاهيميةٍ ما بعد حداثية، وتحديدًا ذلك التقاطع الذي جاء به جاك دريدا لاحقًا خصوصًا في نقده لفكرة أنّ الشفويّة هي أصل الكتابة، فدريدا لم يرَ في المكتوب فرعًا، بل رأى فيه نظامًا مستقِلاً ومراوغًا للمعنى. وبالعودة إلى رولان بارت يتّضح مدى تشبّثه بلحظة الكتابة التي تُمثّل بالنسبة له لحظة انسحابٍ لذات الكاتب؛ حيث لم يعد المكتوب مُلكًا للمؤلف، بل أصبح مُلكًا للقارئ وللتأويل وللغة ذاتها، وكأنّ المكتوب يُجمّد المعنى ويُذيبه في ذات الوقت؛ فهو يُخمد الصوت لكنّه يخلق أزمنة جديدة للقراءة، أو كما يُسميه بارت بنظام الدلالات الصامتة. وبرأيي فإنّ مثل هذه التصوّرات وإن بدت مُكرّسةً في لحظة وعي القارئ الملهمة، وتنمّ عن مدى سُلطته على النص بعد أن فارقت سلطة كاتبه، إلا أنّ خلق تفاعل نصّي مع المقروء لا يمكن أن يكون بمعزلٍ عن مقاصد كاتب ومُنتِج النص، ولو تُرك الأمر سلطةً للنَّص وحده دون تفاعلاته الخارجية لغابت تجلّيات المعاني القائمة على مكوّنات اللغة الخارجية بمختلف أنواعها. فالمؤلف ليس مجرّد اسم على غلاف، بل إنّه جزء من ذاكرةٍ نصّية وسُلطة مرجعية ينبغي استحضارها في الحسابات التأويليّة. ويُمكنني القول إنّ النّص المكتوب ليس إلا خطابًا مؤجلاً إلى حين لحظة حضوره في وعي القارئ الذي يبعث منه خطابا حاضرًا، وربما خطابًا مُتجددًا وفق كفاية القارئ القادرة على استيعاب الكاتب وخلفيته أولاً ثم ما تُمليه عليه الأسيقة والعوالم الخارجية، أو من خلال الأفعال المضمّنة في القول (illocutoire acts) التي تراعي الحيوية والحمولة التداولية والتلفظية وفق مفاهيم أوستين وسيرل وبنفنيست، ولذا يبقى القارئ مُشتغلاً بفرضية متكلّم ضمني مهما ادّعى تحرّره. فوصف المكتوب بأنّه تواصلٌ هش يحمل شُحنة رومنسية مشبّعة بنوستالجيا الصوت الحي، ويُغفل قدرة المكتوب على إنتاج أفعال كلامية مؤثرة وإنْ كانت غير آنية، ويتجاهل أنّ المكتوب ليس مجرّد توثيق، بل إنّه أفعال تُعيد خلق العالم. وإذا كان بارت يدعو إلى قراءة النص بوصفه "نسيجًا من الاقتباسات" حيث تُلغى الذات والمرجع والمقصد لصالح لعبة العلامات، فإنّ القراءة تفترض وجود قارئ متعالٍ أيضًا لا سياقيًا، وهو ما يُخالف الهرمنيوطيقا الحديثة التي تؤمن بتأويلٍ مُتجذّرٍ في السياق، وهكذا يبدو نموذجه مُفرِّغًا للنص من بُعده الإنساني، ومُختزلاً المكتوب في هيكل لغوي منزوع من التاريخ والذات، وربما المعنى.