في كتاب «الاختلاف أفسد للود قضية» الصادر حديثاً عن «مجموعة تكوين المتحدة للطباعة والنشر والتوزيع»، للكاتب المثقّف السعودي الكبير المبدع عبدالله الحسني، مجموعة حوارات ثقافية شيّقة ومتنوّعة منتقاة، وقد أجراها على امتداد مسيرة عمله المؤثّر في الصحافة الثقافية. تجدر الإشارة إلى أنّ مفهوم «الحوار» يستبطن أيضاً النقاش و»الديالكتيك»- الجدلية، علماً أنّ الحوار يُعَدّ بذاته أداةً ناجعة ذات امتيازٍ لبناءٍ مشترك للتفاعل المعرفي والثقافي والحضاري، وللمعنى. الحوار هَهُنا هو أحد المراكز الصحّية والحيوية للكلمة الضرورية والمطلوبة التي تُسهم جزئياً ونسبياً في تشييد التوافق أحياناً بين «الأنا» و»الآخَر» أو حيث تُطرح مسائل وإشكاليّات ديناميّة تهمّ المشهد الثقافي والإنسان العربي، وحيث تُطرح قضايا في عددٍ من فروع المعرفة بالتوازي. وبالتالي فإنّ هذه الحوارات في غالبيّتها تُسهم برفعةٍ في إغناء الثقافة العربية والإنسانية وميادين البحث غير التقليديّ وغير النمطيّ المؤطَّر الجامد وغير الأكاديميّ الذي يرتكز أحياناً في منطقتنا خصوصاً على الإسقاطات النظرية التي تَنْتَأ أو تبرز ضمن فجوةٍ مع حركة الواقع. يبرز تَجلّي المُحاوِر في ثنايا الحوارات، لا سيّما في الأسئلة القديمة المتجدّدة المشرَّعة على الرحابة الثقافية، وفي تلك الجديدة المتّقدة شغفاً معرفياً وحفراً محفِّزاً في الدلالات والمشهد عموماً والنتاج الثقافي في تشعّباته، وفي الحضّ من خلال الأسئلة اللمّاحة على التفكير ومحاولة التوصّل بنِسَب متفاوتة إلى إجاباتٍ وخلاصاتٍ واستنتاجاتٍ وإضافاتٍ مستحدَثة تُثري أفقَ التراكم المعرفي، بتناغماتها، وتقاطعاتها حيناً وتضادّاتها أحياناً، وبإلتماعاتها وانزياحاتها ومغالطاتها ربما، ومفارقاتها وإشراقاتها، فالمحاوَرون أصحاب وجهات نظرٍ ورؤى قد تلتقي أو تتباين وتتعارض بوضوح. الأهمّ أنّ المُحاوِر لم يدَّعِ امتلاك الحقيقة المطلَقة وقد فتح بانفتاحٍ وحنكة أبواب القول الحرّ أمام المحاوَرين ليعبّروا عن أنفسهم، وقد ترجَّحَت أقوال معظمهم بين تدرّجات الذاتية تارةً والموضوعية تارةً أخرى، ما يُعَدُّ طبيعياً جدّاً في مضامير الثقافة والأدب التي ينتسبون إليها. أسماءٌ كثيرة لوّنت مروحة الحوارات العميقة، وقد افتتحها عبدالله الحسني بالناقد محمد العباس «بصرامته المعهودة في حديثه»، حيث تميّز الحسني بسؤالٍ شديد الأهمّية عن سَيْكولوجيا النقد في البناء النقدي الحقيقي لأيّ نص أو تجربة إبداعية، وعن مدى إسهام النقد في التأثير على الكتّاب والنتاج الأدبي، وسواها من الأسئلة الغارزة في الخلفيات والأبعاد... وقد حاور الشاعرة ثريا العريّض، والشاعر والناقد محمد الحرز، والشاعر جاسم الصحيح، والقاص فهد المصبح، والقاصّة ليلى الأحيدب، والأديبة هيفاء اليافي، والقاص عبد الحفيظ الشمري، والقاص حسن الشيخ، والناقد د. علي القرشي، مروراً بالشاعرة سوزان عليوان، وصولاً إلى القاص والروائي يوسف المحيميد والشاعر هنري زغيب، وسواهم. لمعظم هذه الحوارات صهواتها وإيقاعاتها المسترسلة وزخم نبضها في المدّ الجامع. تنأى عن البارد والمتبلّد والمكرور والممجوج لتشعل الفضول المعرفيّ لدى القارىء في مواصلته تلقّي صفحات الكتاب بتشوّقٍ وحماسة، مندرجةً في صميم النقاشات المبتغاة في الساحة الثقافية. تُزعزع الجمود وتعصف به عبر أسئلةٍ لا تخلو أحياناً من جنوحها الثقافيّ الطليعيّ الثقيل المحبَّب، وتتلافى الكلاسيكيّ السائد والرائج الخفيف العابر غير المتبحّر، لتلِجَ الأغوار وتحرّض على توليد إجاباتٍ وردودٍ مغايرة نوعيّاً، وعلى إيقاظ طاقة نشاط ذهني إضافي وإنتاجية في القول، في تنقيبٍ عن ما وراء الظاهر وما خلف المعروف والجاهز والمتحدِّد النهائيّ، فيصبح المعنى مفتوحاً على المزيد من البلورة والإيضاح والرفد والاستتمام، أحياناً على نحوٍ يحثّ على الذهول أمام أمواج الردود والتعقيبات التفاعلية، وهذا فنٌّ لا تتقنه سوى قلّة نادرة، فالمحاوَرة نوعٌ من أنواع الفنّ. هكذا يستنطق عبدالله الحسني المعاني، محرّكاً العقل التأويلي النقدي للتوسّع في تصوّراته. كتاب عبدالله الحسني يبقى من التاريخ للتاريخ. هذا علماً أنّ التاريخ ليس الماضي فحسب، بل يُعَدّ لدى الدارسين والباحثين والمثقفين أداةً لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، على الأقلّ على مستوى جزءٍ لا يُستهان بأهمّيته من المشهد الثقافي وقضاياه وتطلّعاته وإشكاليّاته الممتدّة من الأمس إلى الغد، عبر أصواتِ عددٍ من وجوهه التي تعكس جانباً من صورته. *شاعرة وكاتبة لبنانية