كان المثقفون والفنانون، على مدار التاريخ، روّاد الأمم وقادتها وهُداتها، وكان الناس يثقون بهم، لأنهم كانوا يصدرون عن ضمائر نقية وعقول سخية، وكانوا مُجمِّعين، لا مُفرّقين. بيْد أنّ الزمن اختلف، وتبدلت النفوس، وهذا ما تعاينه أمتنا العربية وهي تقف أمام تحديات بالغة الخطورة، وتواجه موجات متتالية من المتغيرات التي تصيب العالم إقليمياً ودولياً. هذا الواقع يتطلب التضامن الواعي المدرك للأحداث العظام التي تشهدها المنطقة، والذي يأنف من المحاولات التي تحاول أن تخرق السفينة في عُرض البحر. يقع على عاتق النخب العربية المثقفة مسؤوليات كبيرة باتجاه التصدي لكل من يحاول النيل من الوطن العربي ومستقبل شعوبه، فالمثقفون هم الفاعلون المؤثرون وصائغو الضمير، ودورهم في توعية المجتمع أمر فائق الأهمية وشديد الحساسية، لذا نأسف إذ نرى بعض هؤلاء المثقفين الفنانين يتطرقون إلى أمور سياسية لا يعرفون حقيقتها، أو يتجاهلون الاعتراف بالحق، خصوصاً فيما يتعلق بأزمة اليمن وانقلاب العصابة الحوثية العميلة لإيران على السلطة الشرعية، أولئك الفنانون يلوكون كلاماً لا يليق بهم وبتاريخهم وبمسرحياتهم العروبية مثل «كاسك ياوطن»، فالدول العربية هي دولهم، والأعداء هم الأعداء، سواء كانوا في السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي، أم أعداء الحاضر؛ فالعدو الصهيوني لايزال يحتل الأرض، ويوسّع المستوطنات، ويقضم الأراضي الفلسطينية العربية، ويمارس أشكال العنصرية كافة ضد شعب أعزل إلا من الحق. وتركيا، في المقابل، لها أطماعها المتواصلة في الأراضي العربية في شمال سورية، أضف إلى ذلك إيران التي لم تكفّ عن تدخلاتها، وافتعال الأزمات، ومحاولة بسط الهيمنة والنفوذ على الدول العربية، ودعم الإرهاب، وتسمين الميليشيات؛ لتفتيت الهوية العربية، وشرذمة الأمة، وتقويض منجزات دولها في العراق وسورية وفي لبنان واليمن، حتى أضرمت الخراب في هذه الدول التي كانت مستقرة مزدهرة قبل أن يضع الإيراني «بسطاره» فيها عبر ممارساته ودعايته الكاذبة، وزعمه المتهافت بتحرير فلسطين ومعاداة إسرائيل، والرغبة في القضاء عليها، فيما الإيراني، المدجج بالأوهام، يتفاخر في الوقت نفسه باحتلال أربع عواصم عربية. إيران حاربت العراق لا لشيء، إلا لأنه كان بوابة العرب الشرقية، دامت الحرب عدة سنوات واجه العراق فيها كل أنواع الصواريخ والتدمير من قبل إيران التي نرى بعضهم في أرض الرافدين يتودد لها الآن. لا ريب في أنّ هناك رؤى عديدة تجاه ما يحصل في المنطقة، ولا خلاف على وجهات النظر أو في إبداء الآراء التي ينبغي احترامها، لكنّ الانزلاق خلف الدعاية الإيرانية، أو التحامل على الدول العربية الفاعلة ذات الأيادي والنفوس البيضاء، التي وقفت عبر التاريخ مع الدول العربية، حتى نالت استقلالها، وأسهمت في بناء التنمية، أمرٌ مرفوض ومذموم ومستهجن، لا سيما إذا صدرت الإساءة والنكران عن فنان يتعين أن يعبّر عن روح الأمة، لا عن حزب أو طائفة أو نظام، فيتعامى عن الحقيقة، ويروّج الأكاذيب، ويبتزّ المشاعر لخدمة أجندة مشبوهة ومصالح ضيقة، ثم بعد ذلك يتغنى بعبارات الوحدة العربية، متباكياً، مصطنعاً التعاطف والتأثر والحزن الذي لم يعد يخفى على طفل صغير. سياسات طهران، لا سواها هي ما يتعين أن يثير السأم لدى المثقفين والفنانين العرب. واليقين راسخ في أنّ سياسة التضليل لن تقدر على زحزحة أصالة العرب، ولا استلاب حقهم في الحياة الحرة الكريمة والجوار الصالح، أما غير ذلك فليس أكثر من ترّهات صادرة عن فنان مصاب بالعصاب المذهبي، لا يقدّر قيمة المحافظة على صيغة الانتماء العربي الذي يتشدّق به. سيبقى المثقفون والفنانون العرب الحقيقيون هم المرجعية لبعث الآمال وإنعاش الطموح، وسيظل هؤلاء هم البوصلة التي توحّد الروح القومية، وتنحاز إلى الحق الأبلج، والقيم الكبرى النبيلة.