كانت المنصة واحةَ الشاعر ونافذةَ شعره. فالشعر العربي "ظاهرة صوتية" بارتكازه على المنبر إلقاءً وعلى جمهوره استماعًا. ولا تزال هذه الظاهرة حتى اليوم، بإقبال الجمهور على سماع الشاعر يلقي قصائده على المنبر أَكثر من إقبالهم على اقتناء مجموعاته الشعرية وقراءتها. وهنا التميُّز بين الإنشاء كتابيًّا والإلقاء منبريًّا. فغالبًا ما قصائدُ الشاعرِ الجيِّدِ الإلقاءِ تَبلُغ متلقّيها أَعمق مما تبلُغُهم من قراءتها. وربما هذا ما يجعل الجمهور يَطرب للشعر أَكثر مما للخُطَب النثرية، مع أَن خطبةً نثريةً رائعة السبْك والصياغة قد تكون أَحيانًا أَبلغ من قصيدة. لكن إلقاء القصيدة، بتطريب وزنها ورنّة قوافيها، يشدُّ إِليها الجمهور أَكثر من النثر المنبري. وهنا الفخّ المزدوج الذي يقَع فيه الجمهور ويوقِع معه الشاعر: 1) معظم الشعراء يكتفون بأَن يستقيمَ لهم الوزن ببحوره وجوازاته وتفعيلاته وتنساقَ لهم القوافي بِرَويّها وحروفها فيُضَمِّنون إلقاءها تطريبًا يثير إِعجابَ الجمهور فتصفيقَه. 2) معظم الجمهور لا يركّز على النسيج الشعري في القصيدة فيكتفي بالصورة والفكرة وبِرَنَّة التطريب في الإلقاء ونبرة الحماسة في نهاية الأبيات، ليُبدي بالقصيدة إعجابًا قد يُضلِّل الشاعر بعيدًا عن معيار الشعر الأصيل. أَقصى ما يمكن قصيدة المناسبة: أَن تقتصر أَبياتٌ منها فقط على المناسبة، شرط أَن يكون في تلك الأَبيات جمالٌ شِعريٌّ، لكن هذه الأَبيات ليست كافيةً وحدها كي تُشكِّل مادةً لِخُلود القصيدة بعد انقضاء المناسبة. لذا الشعراءُ الكبار لا يكتبون قصيدةً في مناسبةٍ إلّا حين هذه على مستوى أَن تدخل في الشعر. وإلَّا فلْيكتب الشاعر خُطبةً نثريةً يشتغلها بِحِرَفيّة كتابته القصيدة، فالنثر يتَّسع على المنبر لِمساحاتٍ تليق به قد لا تليق بأَن تدخل الشعر. والاشتغال على النثر في خطبة منبرية يعادله طبعًا إلقاؤُها الأَنيقُ كما إلقاءُ القصيدة نبْضًا ونبرةً، احترامًا للنثر الذي لا يقلّ حُرمةً الشعر. وقد يرتجل الشاعر خُطبةً على المنبر، ويكون ارتجاله أَنيقًا كَنَصِّه المكتوب، إما لا يرتجلَنَّ بيتَ شعرٍ واحدًا على المنبر. فللشعر هَيبَتُه وطقوسُه، وما يتساهل به النثر لا يتساهل به الشعر. هذا في المضمون. أَما في الشكل، فعند نشْر القصيدة المنبرية في كتاب، قد لا يتَّبع الشاعر الطريقة العروضية التقليدية في التقطيع (صدْر/عجُز) بل فنتَزيةً منسرحَةً، تقطيعُها يُراعي المعنى أَو نَفَس العبارة عند الإلقاء. فتشكيل القصيدة على المساحة البيضاء لا يجعلُها بشكلها شِعرًا إن هي ليست في الشِعر، ولا يَنْزع عنها الشِعرية حين هي منتثرةٌ وفْق معنى الفِقرة أَو الفِلذة في البيت الواحد. وهنا أَهمية القصيدة (كلاسيكيةً كانت أَم قصيدةَ تفعيلة) أَنها تَبقى شعرًا أَيًا تكن طريقةُ (أَو تشكيليةُ) كتابتِها. في الخلاصة: النثر مطواعُ الشكل الكتابي، والشعر أَيضًا مطواع الشكل الكتابي. النثر يبقى نثرًا كيفما كُتِب، والشعر الكلاسيكي يبقى شِعرًا كيفما كُتِب. الشكل ثوب، والثوب لا يعطي الهوية. والكلاسيكية ذات الأوزان المكرّسة، كيفما كانت كتابتها - عَروضيةً قديمةَ التقطيع منذ الجاهلية، أَو حديثةً نيوكلاسيكية الفنتزية - تبقى هي الهوية التي تسِمُ الشعر. وهنا صُعوبتُها وتَمايُزُها عن النظم المحسوب شِعرًا وهو ليس في الشعر، تمامًا كالنثر العمودي المحسوب شعرًا وهو ليس في الشعر. قصيدة المناسبة، حين هي في الشعر المتين، لا تنطوي مع انتهاء إلقائها على المنبر وانقضاء المناسبة، بل يُؤَلِّقُها الشعر معه إِلى الآتي في الزمان. وهنا عبقرية الشعر.