تجد كثيرًا من الناس عند مواقف القهر التي تخيرهم بين الصبر على أذية من يحبون أو فراقهم يلجؤون إلى التخفيف من الألم بالبكاء وإفاضة الدمع، ولكن حين تكون سواجم العين أكثر إيلامًا وحرقة، يطلقون العنان لأفئدتهم بالتوجع والتأوّه، وهو الأمر الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأنا أقلب في حظي من المقروء اليومي في صفحات موروثنا الزاخر بالعبر، وقعت عيني على ما عتب به أمية بن أبي الصلت على ابنٍ له، فقال: غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ كأني أنا الملدوغُ دونك بالذي لدغتَ به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل فتوقفت قليلاً متفكرًا في أحوال كثير من الناس، من الذين ترقرقت في أفئدتهم أدمعُاً لأسى من إساءة قريب أو ظلم غريب ولم تسعفهم أحرف التعبير للفضفضة بما يعانوه، فإن في الفضفضة أحيانًا نوعًا من تخفيف آلام النفس، وليس كل الناس يملكون ما ملكه أمية من فصاحة وحسن صياغة، فإن في مثل الأبيات التي أنشدتها سابقًا، تنفيسًا عن كربة النفس؛ ولأجل ذلك تجد كثيرًا من الناس عند مواقف القهر التي تخيرهم بين الصبر على أذية من يحبون أو فراقهم يلجؤون إلى التخفيف من الألم بالبكاء وإفاضة الدمع، ولكن حين تكون سواجم العين أكثر إيلامًا وحرقة، يطلقون العنان لأفئدتهم بالتوجع والتأوّه، وهو الأمر الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ولم يوقر كبيرنا"، فإن في التجني والتعدي على الصغير إيلامًا نفسيًا له، لا يستطيع التعبير عنه ولا دفعه عن نفسه، ولأجل ذلك نرى الصغار سريعي البكاء لأدنى تعدٍ عليهم وعلى حقوقهم، فالكبير في هذا الموضع مؤتمن في تصرفه تجاه أطفاله وأطفال أقربائه، وفي المقابل الكبير الذي وصل به الكبر مرحلة لا يقدر فيها على ملاحاة الآخرين ولا على مجاراتهم في تصرفاتهم، ولا يملك من القوة ما يدفع به عن نفسه، ولا من يشكو إليه ظالمه إن كان ابنًا أو أخًا أو قريبًا عزيزًا، ليس إلا لأنه يعز عليه التشكي والذهاب للبحث عن من ينصفه، تقديرًا منه للقرابة، فينقلب إلى فراشه بهمومه وأحزانه وقهره، ولعمر الله لقد نبهنا الإسلام إلى مراعاة كل ذي روح ونفس، وإن كانت من المخلوقات التي خلقها الله للإنسان لينتفع بها، ولكن ليس على وجه القهر والظلم والقساوة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "دخلَ حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسَكَنَ، فقال: مَن ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاءه فتىً من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال: أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ الله إياها؟ فإنه شكا إليَّ أنك تُجيعه وتُدئبُهُ". فالظلم وغمط الحقوق، أمره عظيم ووقعه أليم، ولكن حين يكون المظلوم والمعتدى عليه قريبًا أو غريبًا أو ضعيفًا لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولا أن يشرح مظلوميته، فالأمر أشد وقعًا، ومن شعر طرفة: وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة على المرء من وقع الحسام المهندِ وللفائدة فأبيات أمية التي استهللت بها المقال، تُروى في حديث أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو أباه، فأتي بأبيه فألقى الأبُ حجته، وقال هذه الأبيات، وعندها أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلابيب الولد وقال: "أنت ومالك لأبيك"، وهو بهذا السياق عدّه العلماء من قبيل الضعيف، خلا قول النبي صلى عليه وآله وسلم "أنت ومالك لأبيك" فقد ثبت بأسانيد أخرى.