حياة الإنسان رحلة سرعان ما يجف زيت مشعلها وينطفئ، وبالتالي يغادر الحياة ويؤلم من حوله، كما حدث لدى رحيل الزميل د. ناصر البراق، ذلك الإنسان المليء بالحيوية والنشاط، المفوّه على المنصات والمنابر الثقافية، يعتليها حاملاً سراج وطنه وتراثه وثقافته، طائفاً به في رحاب العواصم الذي عمل فيها، متوّجاً بفكره الثاقب وقدرته الإبداعية الخلاقة كلَّ مكان وطأته قدماه. لقد خاض البراق معترك الحياة بروح تواقة للمعرفة والعطاء، ومضى يزرع بيادر الخير والأمل في المستقبل أينما حل وارتحل. عرفته كملحق ثقافي في الرباط، وكان رجلاً مواقف يزخر بالنشاط، ويتمتع بقدرة فائقة على التواصل وبناء العلاقات، ما أسهم في الاعتماد عليه، نظراً لجديته ومدى إلمامه وتمسكه بأصول المهنة وأسسها، وهو ما رصّع نجاحه في سائر المهام المنوطة به على الوجه الأكمل والأجمل. أذكر أنه زارني في مكتبي بالسفارة، قبل تقديم أوراق اعتمادي، قائلاً لقد اطلعت على إصداراتك التي تعكس المكانة الأدبية والثقافية التي يتمتع بها بعض سفرائنا، وأرغب أن أقيم ندوة ثقافية فكرية لهذا الغرض، وهو ما تم بالفعل، حيث انعقدت الندوة، بحضور الكثير من رجال الفكر والأدباء والسفراء والدبلوماسيين والمسؤولين في الرباط، وكانت فعالية ناجحة عكست ما تشهده المملكة العربية السعودية من مكانه متميزة في المجالات كافة، خصوصاً تنمية الموارد البشرية ودورها الريادي في حقول المعرفة والثقافة. كان د. ناصر البراق يؤمن بانتصار الإرادة الإنسانيّة الخيّرة على قوى الشر، فهو صاحب شخصية مترفعة عن المماحكات، أو أية مهاترات عقيمة. كان حلمه أن يعود للمملكة كأستاذ يسهم في نشر المعرفة، وترويج النور، وإقامة الندوات الأدبية والفكرية في أروقة جامعاتنا، وكنت أشد على يديه، مردداً قول الشاعر: أرأيتَ أشرف أو أجلّ من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولاً. نحن هنا مع أحمد شوقي، لا إبراهيم طوقان الذي شدا في أهمية دور المعلم في جميع مراحل التعليم. ما ظل يتمتع به د. ناصر البراق كملحق ثقافي، من سعة اطلاع وخبرات كبيرة، وشبكة علاقات واسعة، وتجارب واضحة في ميادين النشاطات الثقافية، جعلني أستفيد من ثراء هذه العلاقات، وتعزيز قنوات الاتصال مع رجال الفكر والصحافة والإعلام، وذلك بفضل ما للدكتور ناصر من مكانه مقدّرة واحترام لدى هذه الجهات والمسؤولين، وتسخيرها بالتالي في خدمة مصالح المملكة، خصوصاً أن مثل هذا التواصل والاشتباك يدخل في إطار الدبلوماسية العامة، والتشبيك مع القوى الحية والفاعلة في المجال العمومي. حمل الراحل د. ناصر بين جنباته النبل وكرم الأخلاق والرقي في التعامل الذي يعكس المبادئ العربية الاصيلة والقيم الإسلامية التي تمثل نهج وسلوك الموظف السعودي في الخارج والداخل من الولاء والاستقامة والالتزام المهني والإبداع، هذه الروافع المشتركة هي التي تشكل شخصية الموظف السعودي في ممثليات المملكة في الخارج، وتخلق عقيدته الأخلاقية. لا أجد الكلمات التي تكافئ الراحل، وتعكس مواهبه وخبراته ووعيه السياسي والإعلامي وإلمامه بالمفاهيم والأفكار التي تتفق مع رؤية ونهج المملكة الصائب، سواء من حيث التأبين أو الإشادة بشخصية وقدرات الفقيد التي قلّ أن تجتمع في إنسان، ومع ذلك نحن المومنين ندرك أن لله ما أخذ ولله ما أعطى، ولذا نقبل بأقدارنا ولها تصدع، هذه سنّة الحياة. رحمك الله أخي ناصر، وأكرم مثواك، ولترقد روحك بسلام، كما ظلت دائماً. * سفير المملكة السابق في الرباط د. عبدالرحمن الجديع*