عندما ينشب خلاف بين اثنين فإن الحاجة تستدعي إلى وجود طرف ثالث يتولى حل هذا الخلاف، ويجب أن تتوفر فيه السمات التي تخوله إلى فض هذا النزاع كي يرضى الطرفان بحكمه وعلى رأسها الإلمام الكامل بأصل الاختلاف للتعامل معه بكل حكمة واقتدار، وخلال حياتنا اليومية لا بد أن يحصل خلاف ونزاع بين طرفين وخصوصاً في معاملات الناس اليومية، وعند نشوب هذا الخلاف فإن أصحاب التخصص هم من يلجأ إليهم في فضّه، ومن أكثر الاختلافات شيوعاً في عالم اليوم هي خلافات التعامل في البيع والشراء، وتتعدد الأسباب ما بين جهل بالسلعة أو غش وتدليس أو عدم تنفيذ اتفاق ما بين البائع والمشتري، ولوجود مثل هذا الاختلاف منذ القدم فقد كان الجميع يحتكمون في خلافاتهم إلى من يرشحونه فيما بينهم بعد أن يروا الصفات التي تؤهله إلى ذلك كالسمعة الطيبة والإلمام التام بطبيعة العمل ومعرفة خباياه، لذا فقد اشتهرت كل صنعة بوجود مرجع لحل النزاعات التي تحصل بين التجار أو بين التجار والمتسوقين، وقد أطلقوا على صاحب المهمة كلمة «شيخ» تسبق تخصصه في المهنة، مثل شيخ «الصاغة» الخاص بكل ما له علاقة بتصنيع الذهب وبيعه، وشيخ «المعارض» والذي يتولى فض نزاعات بائعي السيارات أو ملاك معارض السيارات والذي يتولى أيضاً عملة تقييم تلف السيارات بسبب الحوادث المرورية، وشيخ «العسل» وغيرها من المهن الأخرى، وكان في كل مدينة كبيرة أو منطقة شيخ لهذه المهن على اختلافها ويكون مرجعاً لساكنيها ومرتاديها، ومع تطور الزمن وازدياد كثافة السكان التي تبعتها كثرة الأسواق التجارية وشركات ومؤسسات التسويق والتعاملات اليومية، وبات المستهلك بحاجة إلى حمايته من جميع أنواع الغش والتقليد والاحتيال والخداع والتدليس في جميع السلع والخدمات والمبالغة في رفع أسعارهما، لذا فقد بات من الضروري اللجوء إلى جهة رقابية تشرف على تلك التعاملات التي لم يعد بمقدرة شيوخ الصنعة تغطية مشكلاتها، ومن أجل ذلك جاءت فكرة تأسيس جمعية لحماية المستهلك تتولى الرقابة على الأسواق والتعاملات اليومية على اختلافها، ومن ثم تولت وزارة التجارة الإشراف على ذلك. وجود مرجع واعتاد الناس فيما مضى على مبدأ الثقة في التعامل وخصوصاً في التعاملات المالية كالبيع والشراء، وقد عرف الناس الأسواق منذ القدم واشتهر كثير منها في الجاهلية كسوق «عكاظ» و»مجنة» و»ذي المجاز» و»هجر» وفي الإسلام كسوق «المناخة» في المدينةالمنورة والذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينةالمنورة للمسلمين ليخلصهم من سيطرة اليهود على الاقتصاد فيها، ومن ثم تتابع افتتاح الأسواق في كافة الأمصار الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا، ومع تقدم الزمن وتعدد الأسواق في بلادنا بعد مرحلة التأسيس وما تلاها من تطور مطرد في كافة المجالات والتوسع في العمل التجاري وفتح باب الاستيراد وكثرة السلع المعروضة في الأسواق، فقد نشأ الكثير من الخلاف بين الباعة والمشترين من جراء الغش الذي تفشى في العديد من السلع المعروضة والتي راح ضحيتها المستهلك والذي وضع ثقته في القلة من الباعة الذين امتهنوا البيع بالغش والتدليس والاحتيال، ومن أجل ذلك ظهرت الحاجة إلى وجود مرجع للفصل في مثل هذه الحالات، فعمد أهل كل صنعة إلى ترشيح من يرون فيه الخبرة والسمعة الطيبة والتعامل الجيد لجعله شيخاً ومرجعاً في حل النزاعات في كل صنف يباع. تزكية وانتخاب وظهر على سبيل المثال شيخ للصاغة في أسواق الذهب يستطيع أن يفرق بين الذهب الخالص من الذهب المغشوش، ويعرف عيار كل نوع من الذهب كعيار ثمانية عشر وعيار واحد وعشرين وأربعة وعشرين وغيرها من خبايا تجارة الذهب، ومثله شيخ العسل الذي يستطيع أن يفرق بين العسل الطبيعي من غيره من العسل المغشوش، ومثل شيخ المعارض الذي يحتكم إليه أصحاب معارض السيارات في فض النزاعات بينهم أو النزاع بين مشتر وآخر، كما توكل إليه عمليات تقدير قيمة السيارات إذا حصل عليها حادث مروري، حيث يستطيع تقدير قيمة السيارة قبل الحادث وبعد الحادث ليدفع المتسبب الفرق، وهكذا كانت حال كل سوق كبيرة فبات كل من يحصل بينهما خلاف في البيع والشراء يتحاكمون إلى شيخ الصنعة ليجدوا لديه حلاً يرضي كلا الطرفين، وعند نشوب خلاف كبير لا يستطيع أن يبت فيه - وهو أمر نادر الحدوث - فإن السبيل الوحيد إلى حل هذا الخلاف والنزاع هو الذهاب إلى القاضي الغير بعيد عن السوق والذي يقوم بدوره بالحكم في قضيتهما، ولم يكن اختيار شيخ لكل صنعة أمراً سهلاً وميسراً، فقد كان أمر يحتاج إلى التزكية وأحياناً كثيرة إلى الانتخاب من أصحاب الصنعة، فقد يتواجد في صنعة واحدة أكثر من شخص لديه إلمام في الصنعة ويشتهر بالحذاقة والصدق والأمانة وسرعة البديهة والسمعة الطيبة، لذا كان من الضروري أن يتفق أهل الصنعة على واحد منهم، وهذا ما يحصل منذ القدم، وقد يستمر أحدهم بالعمل في هذه المهنة لأكثر من نصف قرن ويوجد في عالم اليوم الكثير منهم وهو يتمتع بالصحة والعافية. هيئة تقييم ومع المتغيرات التي تطرأ بين الفينة والأخرى فإن بعض المهن يتراجع الإقبال عليها أو قد تندثر، ومنها على سبيل المثال مهنة «شيخ المعارض»، حيث تم إنشاء هيئة للمقيّمين المعتمدين وهي هيئة تختص بمهنة التقييم في المملكة، وتعمل على تنظيمها وتطويرها وتأهيل العاملين فيها، أنشئت بمرسوم ملكي في العام 2012م، لها شخصية اعتبارية وميزانية مستقلة، وتشرف عليها وزارة التجارة، ويترأس مجلس إدارتها وزير التجارة وتهدف الهيئة إلى توطين مهنة التقييم في المملكة، وتطوير وتنظيم قطاع تقييم الأعمال، وتخريج كفاءات وطنية ترتقي بمهنة التقييم كونها عنصرا مهما في حفظ المال العام، وقد كشف المدير التنفيذي للتخطيط وتطوير الأعمال بالهيئة السعودية للمقيّمين فيصل المنديل أن مطلع العام 1441ه شهد نهاية شيخ المعارض لتقدير حوادِث السيارات، رغم أن الهيئة ما زالت تستعين بشيخ المعارض في حال تلف السيارة بالكامل، وكدليل على أن دور شيخ المعارض تراجع أو اضمحل مؤخراً هو النظر إلى إحصائية هيئة المقيمين التي أصدرت خلال الربع الأول من العام 2019 م حيث أصدرت أكثر من 88 ألف تقرير عن أضرار حوادِث مرورية، بقيمة 581 مليون ريال في منطقة الرياض وحدها، ويُتوقع أن يصل عدد مراكز تقييم حوادث المركبات في العام 2020 م إلى 25 مركزاً في 13 مدينة في المملكة، حيث توجد بالرياض حالياً خمسة مراكز ومركزان في جدة ومركز في الخبر وآخر في الدمام، فيما يستوعب المركز الواحد 400 سيارة يومياً، ومن ضمن مهام الهيئة هو أنها تنظم مهنة التقييم، وتضع معايير لازمة لممارسة أعمال التقييم، وتطور مهنة التقييم، وتساعد في رفع المستوى المهني والفني والأخلاقي للعاملين فيها، بالإضافة إلى تأهيل المقيّمين واعتمادهم لمزاولة مهنة التقييم في كل الفروع، وزيادة ثقة المجتمع بمهنة التقييم، وجعلها أحد المهن المهمة. زيادة الوعي وفي الأمس القريب كانت العديد من المحلات التجارية والمؤسسات والشركات التي تبيع السلع المختلفة كالإلكترونيات والأجهزة الكهربائية والملابس وغيرها من المواد الاستهلاكية تشترط على العميل عدم الإرجاع للسلعة أو الاستبدال، بل وكانت تكتب ذلك في لوحة كبيرة تعلق في مدخل المحل بعبارة تلفت الأنظار وهي «البضاعة المباعة لا تسترد ولا تستبدل»، تلا ذلك طباعة تلك العبارة بخط واضح في فاتورة الشراء أيضاً، مما أضاع حقوق المستهلك الذي قد تضطره الظروف أحياناً إلى الإرجاع أو الاستبدال فلا يجد عوناً له في تحقيق رغبته تلك، ومن أجل ذلك جاءت فكرة إنشاء جمعية لحماية المستهلك وهي مؤسسة سعودية أهلية، بدأت كفكرة لدى الأعضاء المؤسسين العام 1419ه، ثم صدر قرار مجلس الوزراء بالموافقة على إنشاء وكالة لشؤون المستهلك بوزارة التجارة والصناعة بتاريخ 17 / 6 / 1428ه، وتهدف الوكالة إلى العناية بشؤون المستهلك ورعاية مصالحه والمحافظة على حقوقه والدفاع عنها، وتبني قضاياه لدى الجهات العامة والخاصة، وحمايته من جميع أنواع الغش والتقليد والاحتيال والخداع والتدليس في جميع السلع والخدمات والمبالغة في رفع أسعارهما، وباتت الوكالة تتلقي شكاوى المستهلك، المتعلقة بالاحتيال والغش والتدليس والتلاعب في السلع أو الخدمات والمغالاة في أسعارهما، وكذلك التضليل عن طريق الإعلانات في الصحف وغيرها، ورفع ذلك إلى الجهات المختصة، ومتابعتها، وبات من اختصاصاتها أيضاً مساندة جهود الجهات الحكومية المعنية بحماية المستهلك، وإبلاغها بكل ما يمس حقوق المستهلك ومصالحه، وإعداد الدراسات والبحوث، وعقد المؤتمرات والندوات والدورات، وإقامة المعارض ذات العلاقة بنشاط حماية المستهلك، ونشر نتائج تلك الدراسات والبحوث، إلى جانب توعية المستهلك بطرق ترشيد الاستهلاك وتقديم المعلومات والاستشارات الضرورية له، واقتراح الأنظمة ذات الصلة بحماية المستهلك وتطويرها، وتمثيل المستهلك في اللجان والهيئات المحلية والدولية ذات العلاقة بحماية المستهلك، وباتت تختص الوكالة بحماية المستهلك من الغش والخداع والتقليد والإعلانات المضللة والممارسات غير العادلة، والرقابة على السلع والخدمات لضمان سلامتها ورفع مستوى وعي المستهلك، وتعزيز الاقتصاد الوطني من خلال الارتقاء بجودة السلع، كما تُعنى الوكالة بتطبيق الأنظمة ذات العلاقة بالمستهلك وتلقي شكاوى المستهلكين ودراستها وتحليلها، والتعاون مع الجهات ذات العلاقة لوضع حلول لمعالجتها. الأسواق قديما اعتمدت على الثقة بين البائع والمشتري جمعية حماية المستهلك حفظت حقوق المستهلكين شيخ المعارض ساهم في فض النزاعات بين البائع والمشتري تقدير الحوادث انتقل من شيخ المعارض إلى هيئة التقييم وكالة شؤون المستهلك وقفت ضد ممارسات الغش والتقليد والاحتيال حمود الضويحي