يبدو أن الخيبات مرافقة لهذا الكيان الصغير في مساحته والكبير في تطلّع أبنائه وشعبه وطموحهم؛ خيبات عديدة منها التقسيم الذي افتعلته السياسة الاستعمارية - كما يرصد التاريخ - تلك التي تمّت بالاتفاق بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية.. يبدو أنّه قدَرُ لبنان أن يكون منذوراً للحروب وللخراب، فقد شهد تاريخه حروبا عدة من العام 1975م حتى الآن؛ وإن اختلفت في درجاتها وآثارها، لكنها، أيّ "الحرب" قَدَر رسمَت للبنان وعاصمته كما يشير الكاتب الراحل سمير قصيّر: "رسمت صورة بلد عصيّ على السيطرة ومدينة منذورة للخراب، وساحة مقفلة يحصل فيها كلّ شيء ويمكن أن يحصل، والحقيقة التي تدعو للأسف، أنّ هذه المساحات الضئيلة من الأراضي، انطوت دائماً على كافة مظاهر الفوضى والعنف". هكذا كان تاريخ لبنان مع الفوضى والعنف والاستقطاب الطائفي والارتهان لحزب الله؛ هذا الحزب المدمّر الذي أحدث - ومازال يحدث - الخراب والدمار واجتثاث كلّ ما له علاقة بالجمال والإنسان والحياة، وبثّ الفرقة ومشاعر الكُرْه وكذلك العزلة التي سببها لهذا القطر الحضاري الذي كان مشعلاً تنويرياً للعرب وحاضناً للثقافة والجمال وقيم التنوير والمعرفة؛ وبات لبنان من الهشاشة في البنية والحضور الإقليمي والدولي والارتباط بكافة أشكال وصور الفساد والضياع للبوصلة السياسية بشكل مريع ومقيت. شكل لم يعد حتى أهله يحتملوه؛ وقد عبّروا ويعبّرون عن هذا المقت والخيبة في أحاديثهم ونشرات أخبارهم وبرامجهم وفضائياتهم وكافة وسائل إعلامهم وأقنيتها المختلفة. صورة قاتمة محزنة آلمت كل محب للبنان ولسيادته وكل من عرف لبنان مصدراً للثقافة والإشعاع المعرفي الذي ارتبط به وبالصورة الذهنية عنه. لبنان بشوامخ جباله والذي أشتقَّ اسمه من مفردة "لبن" نسبة إلى بياض قممه المغطّاة بالثلوج.. أو "لبان" نسبة لرائحة أزهاره وأشجاره البخورية العطرة؛ الآن باتت رائحة الدم والفساد والخيانات ونهب خيرات شعبه هي الرائحة العطنة الأبرز والمُزكِمة للأنوف للأسف. ويبدو أن الخيبات مرافقة لهذا الكيان الصغير في مساحته والكبير في تطلّع أبنائه وشعبه وطموحهم؛ خيبات عديدة منها التقسيم الذي افتعلته السياسة الاستعمارية - كما يرصد التاريخ - تلك التي تمّت بالاتفاق بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، في منتصف القرن التاسع عشر؛ ولم تكن فقط مجحفة بحقه كما يشير جورج حنا؛ وإنما كان مخالفاً لطبيعة الأشياء. وكان هذا التقسيم سياسياً واستعماري الهدف.. قُصد به افقار لبنان، وجعله أبداً تحت رحمة الطامع الأجنبي. لبنان بانفتاحه ومناخاته المتعددة المستوعبة للتباين الديني والمذهبي كان مُهيّأً لأن يكون أكثر ثباتاً واستقراراً وأداءً لدوره الثقافي والحضاري، سيما أنه استطاع في اختلاف مراحله أن يستوعب هذا الاختلاف والتباين الهويّاتي والعقدي وغيره من خلال علمنة الدولة؛ وهي العلمنة التي لا تتضاد مع الدين وحرمته؛ لكنها علمنة كانت بمثابة سياج يصونه من استغلال المتاجرين بالدين وتسخيره من قبل المُرائين لغايات سياسية ودنيوية كما يتمثّلها بقبح وفجاجة حزب الله المرتهن لسياسة إيران القميئة القائمة على تصدير الثورة الخمينية مصحوبة بنزعاتها الشريرة والتوسعية. كل هذا الاضطراب وتلك القلاقل التي تحكم الخناق على لبنان أحالته من دولة انطلقت منذ بواكير تأسيسها بفكر تقدّمي شهده العرب جميعاً عبر مؤلّفات كُتّابها ودُور نشْره التي كانت تبث الوعي والجمال وقيم التنوير للعرب قاطبة. كل هذه الصور تنداح في الذاكرة وحالة من الألم والخيبة تستوطن قلوب العرب بكافة توجهاتهم وثقافاتهم وهم يرون هذا الانفجار المروّع قبل يومين؛ هازّاً المشاعر والقلوب قبل أن يهزّ مرفأ بيروت بأهميته الدولية؛ باعتباره يشكّل مركز التقاء للقارات الثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا ومحطة تجارية دولية مهمة مع الدول العربية. إنّ أكثر المفكّرين والمنظّرين والباحثين في التاريخ وسياسات الدول وأشدّهم تشاؤماً وتطيّراً وهلعاً من المستقبل ومن غموض مآلاته لم يكن يتخيّل أنّ الوضع في لبنان سيصل إلى ما وصل إليه من ضعف وهوان وتفتُّت وحروب وصراع هويّاتي كالذي يحدث الآن. وهو هوان وضعف يعكس ضعفاً يعيشه عالمنا العربي برمّته؛ فلم يتوقّع أكثرنا تشاؤماً أنّ كل مشاريعنا العروبية والإسلامية باتت قبض ريح ولم تُفلح كل تلك المشاريع البراقة المدفوعة بطموحات وآمال عريضة من شعوبها وقياداتها في تأسيس كيانات قوية متماسكة وعصية على التفكيك أو الاختراق وأنّ تلك الوحدة العربية عجزت أن توفّر لاجتماعها وتوحّدها الحصانة والمناعة الكفيلين بحمايتها وحماية شعوبها من التنازع والاختلاف؛ فلا بات للجوار بين الدول حرمة، ولم نتمكّن - كعرب - بكامل حمولتنا التاريخية أن ننهض بعبء دولنا؛ بل بتنا كيانات هشّة غير قادرة على مجابهة تحدّياتها. وهذا الضعف لم يكن له أن يتفاقم لولا خيانات البعض من الدول التآمريّة من محور الشر التي تتغلغل وتتغوّل بشكل شرس عبر أذرعتها من خونة وميليشيات لا يتجاوز نظرها وحنكتها السياسية أبعد من أنفها. هذه الدول المتآمرة هي من يكرّس ضعفنا كدول عربية وإسلامية فباتت كالإسفين الذي يدقّ مسماره في نعش الجسد العربي؛ فبات الخلل البنيوي للدول الملمح الأبرز والأكثر حضوراً في وجودنا وتلاحمنا العربي المحزن والباعث على الخيبة والذي لن يصلح حاله ما لم يتم اجتثاث هذا العضو الفاسد في جسد عروبتنا. إن ما حدث في لبنان ويحدث في دول عربية شقيقة من دمار واقتتال وتشرذم هو مؤشر خطير على واقع عربي مؤلم لم تعد مجابهته خياراً بقدر ما هي ضرورة؛ وبات من الضروري التنبّه إلى أن كُرة النار تتدحرج بقوة وتتضاعف حتى تحرق الجميع؛ وهو ما يسعى إليه الطامعون في دولنا كعرب ومسلمين؛ أن يتم تعميق تشرذمنا وتقسيمنا لكيانات هشة ذات حدود ملغومة بأسباب الصراع وذات بنية داخلية تفتقر إلى قيام كيانات وطنية جامعة لمختلف مكوناتها الثقافية والدينية والاثنية حتى يسهل لها وضع أيديها على مقدرات شعوبنا وتوظيفها في مصالحها وصراعاتها الهادفة أصلاً إلى بقائنا كيانات هشّة لا مناعة ولا حصانة بنيوية تحمي وجودها فهل نحن واعون؟ وألم يأن الأوان لتجاوز أهدافنا الضيقة إلى رحابة تماسكنا واستثمار مقدراتنا كرعب ومسلمين لقطع دابر الأطماع والأحقاد أمام عدوّ متربّص هدفه الرئيس أن تبقى دولنا كيانات ملغومة من الداخل قابلة للتفجير في أي وقت وبتوقيت مصالحه وأغراضه الخفية والمعلنة؟، أجزم بيقين لا يشوبه ارتياب أننا جميعنا نرجو ذلك.