مرت خمس سنوات على الحرب الطاحنة في اليمن وما زالت ناراً مشتعلة تُصلي الجميع. سبق هذه الحرب حوار وطني شامل نتج عنه وثيقة تضمنت تحويل اليمن من دولة مركزية إلى دولة اتحادية مكونة من أقاليم. استبشر اليمنيون خيرا مفعمين بآمال عريضة بأن يشكل ذلك فاتحة لعهد جديد لبناء الدولة المنشودة، دولة تغلق ملفات قديمة موغلة في التعقيد وتنشد التنمية والعدالة والمساواة. وعلى خلاف ما عهدته شعوب الأرض وبعد إنجاز مشروع الحوار لمراحله تشظى الإجماع والتوافق، ليفضي إلى نزاع بين شركاء الحوار سرعان ما تصاعد ليتحول إلى انقسامات ومواجهات مسلحة تطورت إلى انقضاض على السلطة وتوسعت في أحداثها ليدخل اليمن في دوامة احتراب لم يعهده من قبل، مخلفة نتائج كارثية تواصلت حلقاتها لتجرف اليمن بعيدا عن المشروع الوطني الحالم الذي تطلع إليه اليمنيون ردحا من الزمن. توالت علينا الأحداث العاصفة، وفي مقابلها توالت المبادرات الإقليمية والدولية لاحتواء الأزمة وتداعياتها الإنسانية المدمرة، ولم تنقطع الجهود لرأب الصدع وتعدد المبعوثون الدوليون لتيسير التقاء الأطراف المتصارعة، وتنوعت أطروحاتهم وآلياتهم، ينشدون الحل الذي يخرج اليمن من نفق الأزمة المدمرة، وعلى مدى خمس سنوات لم تكف رحلاتهم المكوكية، وفي المقابل لم تكف طبول الحرب عن القرع، بل تعالت كثيرا، وامتد نطاقها على كامل رقعة البلاد، وتطورت لتستوعب انقسامات جديدة في المشهد السياسي والعسكري لتنعكس تشظيا متعاظما. واليوم لا ملامح لانفراج قريب أو بوادر تنبئنا بقرب خلاص اليمنيين من كابوسهم المرعب، ويتعقد الأمر دائما وأبدا بمواقف أطراف الأزمة المحلية المتعنتة، وقلوب عامة اليمنيين مجتمعة عاجزة عن سبر أغوار مأساتهم التي يعيشونها ويدفعون أغلى ما يملكون ثمناً لها، ولسان حالهم يتساءل بعد تعثر كل اتفاق تعقده الأطراف المحلية المتناحرة، أو جولة جهود لمبعوث هنا، ومبادرة هناك، أين تكمن المشكلة؟ وفي الجانب الآخر نجد نخب بلادنا ليست بأفضل حال، تنقسم في تحليلاتها وتشخيصاتها في قوالب واتجاهات متباعدة.. وبحسب قراءات تاريخية في حياة الشعوب تتحمل النخب في مجتمعاتها مسؤولية كبرى في احتواء الأزمات التي تنشأ فيها عبر تفاعلات للأفكار والمواقف، وتشكيل مدخل لأطر الحلول الممكنة التي تتطور بمرور الوقت لتخلق تراكمات من الرؤى المنتجة لمخارج عملية توصل شعوبها إلى بر الأمان، ولنا هنا أن نسأل كيف ترى النخب في بلادنا أسس الحل للمأساة التي تعصف بنا؟ وكيف يمكن لها أن تنتصر لدورها الطبيعي تجاه شعبها في كشف غموض المشكلة وفهم وتحليل عناصرها وتشخيص مواطن العلة فيها، وفق قراءة سليمة وصادقة ومستقلة، تفضي بداية إلى اتفاق لوقف الحرب وحقن نزيف الدم، تمهيدا للحل الشامل. ثمة اتجاهان يغلبان على نهج النخب اليمنية في تفسير أسباب استدامة الأزمة. حيث يميل الاتجاه الأول إلى تحميل الإرادة الدولية أسباب الإخفاق في الوصول إلى الحل، في حين أن الاتجاه الثاني يعزو ذلك إلى عوامل محلية صرفة، مردها الأطراف اليمنية المتصارعة ذاتها. فيما يتعلق بالاتجاه الأول يرى أصحابه إجمالا أن تعثر السلام في اليمن واستمرار الحرب يعود إلى أنه وحتى الآن لم تتوفر بعد الإرادة الدولية للحل في اليمن وعدم جاهزيتها لذلك. ويذهب الاتجاه الثاني إلى تحميل الأطراف اليمنية المتصارعة ذاتها مسؤولية الأزمة وما آلت إليه الأمور من استمرار نزيف الدم وتشظي للوطن بسبب أنانية قواه السياسية ومراكز النفوذ الجاثمة على مقدراته والمتسلطة على قراره، وسعيها للحفاظ على مصالحها مهما بلغ مقابلها من فاتورة تقتطع أثمانها من معاناة اليمنيين وتمزيق لما بقي من اليمن. وبالتأمل في هذين الاتجاهين والبحث في بواعثهما والأسس التي تستند عليها، نجد أن أنصار كل اتجاه يسوقون إلينا على الدوام حججاً وأسانيد يرونها دامغة لدعم رؤاهم، ففي حين يرى أنصار الاتجاه الأول أن تعكف نخب اليمن وعقلاؤه فقط على التواصل مع المجتمع الدولي وقواه المؤثرة لبحث إمكانية استيعاب شروط دمج اليمن في خارطة مصالحها، وجعله شريكا حقيقيا ولو بدور متواضع "هامشي" تفرضه مزايا الموقع الجغرافي المميز لليمن، وقبول إعادة تموضعها في خارطة مصالحها تلك، وذلك في سبيل ضمان التدخل القوي لإنجاح حل ناجع لأزمة اليمن واليمنيين، ووضع حد لمعاناة طال أمدها ولا أفق لانتهائها. يرى أنصار الاتجاه الثاني أن الحل لن يكون إلا يمنيا خالصا، ولن ينجز إلا على يد أبنائه، إذا ما خلصت نواياهم، وأنه يجب أن لا يستبد باليمنيين اليأس من قدرتهم على حل خلافاتهم فيما بينهم مهما عظمت، ويدعون إلى عدم التفريط بسيادة وطنهم، والارتهان للخارج القوي، ويعمد أنصار هذا الاتجاه على نهج خطابات تمتزج فيها القيم الوطنية والدينية. وبين الاتجاهين السابقين تبرز اتجاهات أخرى تشكل خليطا، يغلب فيها أحد الاتجاهين على الآخر، وتتقلب في أحايين أخرى للميل إلى هذا الاتجاه أو ذاك بحسب مقتضيات الظروف المتقلبة والخارجة عن سيطرة اليمنيين، مما يجعلها تبدو متخبطة وغير مقنعة. إن الغرض من وضع هذا الأمر على طاولة النقاش هو دعوة النخب اليمنية الصادقة للبحث الجاد في أسباب فشل كل المساعي حتى الآن لإيجاد حل للأزمة في اليمن، وتحديد مرجعياته وتأصيل العناصر الفاعلة والمؤثرة فيه، والإقرار بأي من الطريقين نسلك، هل نحزم حقائبنا فعلا وننطلق دوليا؟ أم نحشد الجهود للتحرك بقوة لدى الفاعلين المحليين واستنهاض الشارع داخليا؟ بالتاكيد دون إغفال ما لدول الإقليم من فاعلية وتأثير على إنجاح الحل، وهو ما ينبغي مراعاته في كل الأحوال. فهل آن الأوان للتفكير بعمق والتركيز على خيار الطريق الأصوب للحل، ودون استهلاك وقتا أطول لإطالة الحرب التي أهلكت الحاضر وستستهلك حصص الأجيال القادمة في اليمن والمنطقة. * باحثة يمنية في الشؤون السياسية والاجتماعية