كانت الدراسات الإسلامية من حيث التأسيس تعود إلى علماء العقيدة الأوائل وقادة الفكر الإسلامي والمذاهب الفكرية على مستوى الفكرة والمنهج والموضوع والذي على إثره أحرزت ثراء نوعيًا على المستوى النظري دراسة وبحثًا وتأليفًا وكتابة.. كنت أدرس في الولاياتالمتحدة الأميركية في حقل الدراسات الآسيوية وكنت قبل ذلك أثناء رئاستي لتحرير مجلة المبتعث في واشنطن قمت بدراسات موسعة عن مراكز دراسات الشرق الأوسط نشرتها في مجلة المبتعث. ولقد تبين لي من خلال علاقاتي مع مراكز الدراسات ومن واقع دراستي في حقل الدراسات الآسيوية عن وجود نقص وخلل كبير في منهجية الدراسات الإسلامية وبالذات في طريقة طرح الموضوعات والقضايا الإسلامية. وهناك اجتهادات لتفسير هذا الخلل المنهجي منها أن المؤسسة العلمية الغربية تقوم على فلسفة تربوية غربية تعتمد الوجهة الغربية في منهجية عرض العلم فالاتجاه الغربي في التفكير يقوم على روح المدنية الأوروبية الغربية. يترتب على ما سبق سؤال مهم: ما مدى تأثير المؤسسات العلمية الغربية على الدراسات الإسلامية؟ سأحاول الاقتراب من السؤال من خلال توضيح طبيعة الموقف الفكري فالمؤسسات العلمية الغربية ترى أن الغاية من الدراسة البحث عن المعرفة أما المؤسسات العلمية العربية والإسلامية فإن الهدف من الدراسات الإسلامية أو العقدية لا يتوقف عن حد البحث عن المعرفة وإنما أن تصير المعرفة جزءاً من عملية أشمل وهي السعي لمعرفة وتوضيح الحق. فالدراسات الإسلامية تتأثر في فكرتها ومنهجها بعاملي الميراث والوجدان الثقافي. وإذا كانت الدراسات الإسلامية من حيث التأسيس تعود إلى علماء العقيدة الأوائل وقادة الفكر الإسلامي والمذاهب الفكرية على مستوى الفكرة والمنهج والموضوع والذي على إثره أحرزت ثراء نوعيًا على المستوى النظري دراسة وبحثًا وتأليفًا وكتابة. فعندما نتتبع تاريخ الدراسات الإسلامية نجد أن العلماء المسلمين كانوا سباقين إلى هذا العلم فقد أثروا حياة الدراسات الإسلامية بإضافاتهم العلمية. إلا أن واقع الدراسات الإسلامية في الغرب يحتاج إلى تدقيق وتمحيص ومعالجة من الناحية المنهجية والفكرية ومهما كانت هذه المهمة صعبة إلا أنها ممكنة. وبرغم عقلية الغرب المثقفة والإمكانات العلمية والمادية إلا أن أزمته الفكرية التاريخية مع الدراسات اللاهوتية وبساطة تشكيل قناعات العقل الغربي أوجدت خللًا فكريًا في التصور لماهية الدراسات الدينية فأصبح يطغى على تلك الدراسات الصورة الذهنية المختزلة في ذاكرة الباحث الغربي والتي لها امتداد تاريخي في الفكر الغربي حيث ألقت تلك الأزمة التاريخية بظلالها على مجمل الدراسات الدينية سواء أكان مصدرها المسيحية أو الإسلام. فأزمة الفكر الغربي التاريخية مع الدراسات الدينية يرجعها د. محمد اللافي أستاذ مادة العقيدة ومقارنة الأديان في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية في باريس إلى الفلسفة الشكية الغربية الحديثة التي تدعو إلى تحرير العقل الغربي من سلطة الكنيسة واللاهوت وكل ما له صلة بالأديان والمعتقدات. ويرجع سبب ازدهارها إلى المكتسبات التي حققتها في مجال العلوم الطبيعية حيث خاض العقل الأوروبي معركة حاسمة في القرن السادس والسابع عشر من أجل حق الإنسان في أن يفكر خارج نطق تسلط الكنيسة ومقولات أرسطو. وقد وُسم الفكر الفلسفي الغربي بالفلسفة الشكية وهي في حقيقتها فلسفة تجريبية لا تعترف بأي حقيقة إلا تلك التي مصدرها الحس على الرغم من أن الحس يستطيع فقط أن يعطي الاحتمالات وقد تسربت الفلسفة الشكية في الغرب في كل الميادين وكان أكثر من عانى من تلك الفلسفة: الأخلاق ونظرية القيم كما عانى منها التاريخ والأديان. وأذكر أنه في مادة الأديان عندما كنت طالبًا في جامعة Seton Hall بالولاياتالمتحدة الأميركية كان من بين موضوعات المادة دراسة العقيدة الإسلامية وكان يدرس المادة رئيس قسم الدراسات الآسيوية وأحد النافذين في الجامعة وهو رجل دين كاثوليكي يطلق عليه لقب فاذر وهي إحدى المراتب الكنيسية دعاني إلى مكتبه وقال لي بكل سماحة وشفافية بأن المحاضرات القادمة في مادة الأديان سوف تكون عن العقيدة الإسلامية فإذا كنت تعتقد أنني سوف أعرض العقيدة الإسلامية بفكر مختلف عن فكرك أو فيما تعتقده.. وقبل أن يكمل سألته عن منهجه في العرض قال: مثل منهجي في عرض الأديان السماوية اليهودية والمسيحية والمعتقدات التاريخية الهندوسية والبوذية فأنا أعلم مدى حساسية العربي المسلم في أن يصغي إلى حديث في عقيدته مخالف لما يعتقده. شكرته وأبديت له ثقتي فيه وفي حياديته.. وقال: لا بأس في ذلك ولكن درءًا لما قد أقوله خطأ أو أتجاوز الصواب فيما تعتقده أو أتبنى فكرًا مختلفاً عن فكر معتقدك أو قد أصور الإسلام على غير حقيقته وذلك تحت تأثير المنهجية العلمية الغربية أو الثقافة الكنيسية أو فكري الخاص فأنا لا أدرس الأديان بنسق إيماني، وإنما بنسق عقلي موضوعي حيادي لذلك أرى أن أترك لك تدريس هذا الجزء من المادة والذي يتعلق بالإسلام نيابة عني تجنبًا لكل هذه الاعتبارات وسوف أحضر درسك وأجلس في آخر الفصل لأستمتع بما تقول.. والآن عليك أن تحضر المادة جيدًا فزملاؤك الطلاب سوف يسعدون برؤيتك وأنت تقدم لهم الإسلام. قدمت المادة لزملائي طلاب الدراسات العليا وشكرته. إن معظم معارف اليوم في الغرب ليس في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية وحدها وإنما في العلوم الطبيعية تقوم على أساس نظري وفكري. ولكي نستفيد من هذا العلم علينا أن نخضع هذا العلم لنسق عقلي نؤمن به، إذ إن الوهم السائد بحيادية العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس صحيحًا؛ فالعلوم الطبيعية موجهة ليس إلى التكنولوجيا وتيسير الحياة المادية فقط ولكنها موجهة مع هذا إلى محاولة تفسير العالم الطبيعي الذي نعيش فيه وعند ذلك يكون التلقي الناقد طريقنا لفهم هذا العلم حتى لا نقع في حيرة فكرية وعندما تصير الحيرة الفكرية هدف العلم يصير عدم اليقين الفكري هو الشعار وهذه حالة لا يستفيد منها أحد. Your browser does not support the video tag.