هناك صفحات مدونة في ذاكرة التاريخ التي لا تضعف أبداً، وصفحات مدونة في مذكرات العظماء، يجب ألا تغيب عنا يوماً وأن تظل في الذاكرة، فالعظماء يرحلون من هذه الدنيا تاركين قيماً ومثلاً عليا وتاركين أمجاداً وإنجازات لا يمكن لها أن تمحى من الذاكرة. خرج عملاق الصحافة المصرية مصطفى أمين، من زنزانة السجن السياسي الذي دخلها عام 1965م في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، بعفو من الرئيس أنور السادات، ولكنه خرج بطلاً عظيماً، ورمزاً للحرية، واستقبله الشعب المصري والصحافة المصرية وجميع من عشقوا قلمه الحر، استقبال الشعوب للقادة العظماء المنتصرين في الحروب، وعاد القلم الذي ينبض حرية ووطنية وتعدى بانتمائه حدود وطنه إلى العالم العربي والإسلامي أجمع، كما يتجلى ذلك دائما في جميع كتابات مصطفى أمين الاجتماعية، و(السياسية) بشكل خاص. ولأن الشرفاء لا يعزفون على جميع الأوتار ولا يطلقون جميع النغمات ولا يتلونون، يدفعون ثمناً باهظاً.. ولكنهم مستعدون دائما لدفع الثمن لأن غاياتهم وأهدافهم دائماً سامية ونبيلة، فأحلامهم هي أحلام الأمة كلها وغاياتهم هي غايات شعوبها. أسس مصطفى أمين جريدة (أخبار اليوم) عام 1944م، وجريدة (الأخبار المصرية) عام 1952م مع أخيه التوأم علي أمين، وأصبح رئيس تحرير لأول مرة وهو في الرابعة والعشرين من العمر، ورأس تحرير مجلة آخر ساعة وجريدة أخبار اليوم، ثم مجلة المصور ثم عشرات الصحف والمجلات، وأسس فكرة (الاحتفاء والتكريم) لكل أم ووضع تاريخ (21 مارس) ليكون ذكرى سنوية لذلك، وأسس باباً للتبرعات الخيرية بالأخبار تحت عنوان (ليلة القدر) لمساعدة الفقراء والمساكين والمرضى وكل المنكوبين، وكان يقوم بأعمال خيرية وإنسانية عظيمة بكثير من التكتم والسرية. وفي أوراق مدونة بتاريخ 1979م لمصطفى أمين، كتب عن لقاء حدث بينه وبين الصحافة الأمريكية حيث سأله صحفي أمريكي: من أعظم من حكموا في العالم من الذين رحلوا؟ ولماذا؟ يظن البعض أن مصطفى أمين سيعدد أسماء لا تحصى ولا تعد فهو السياسي المحنك والصحفي المخضرم، الواسع الاطلاع والمعرفة، والملم بكل صغيرة وكبيرة تخص السياسيين في العالم، الشهير بأنه أفضل من يعرف بخفايا الأمور، ولكن... لا. ذكر مصطفى أمين أسماء قليلة ومحددة للغاية، معلقا لماذا اختار هؤلاء من بين رجال العالم: يقول مصطفى أمين: كان (آيزنهاور) عظيما وقف مع مصر عام 1956م ضد حلفائه الثلاثة، بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وأدان العدوان الثلاثي على مصر بشدة، وقامر بفرصته في الانتخابات الرئاسية من أجل أن ينصر الحق والمعتدى عليه. وسعد زغلول زعيم ثورة 1919م، أعظم الزعماء الوطنيين، الذي تربيت ونشأت في منزله وفي كنفه وعلمني كيف يوهب الرجال حياتهم من أجل أوطانهم وأمتهم.. و(الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود)، الشهيد العظيم الذي افتقدته كل الأمة العربية والإسلامية، شريك مصر في انتصاراتها في حرب أكتوبر 1973م وأكثر العظماء ذكاء وفطنة.. و(الملك عبدالعزيز آل سعود)، أعظم ملوك القرن العشرين، الذي أعاد للإسلام مجده وللمسلم هيبته.. فالعالم أجمع يدرك كيف جمع أجزاء الشتات تحت راية التوحيد، وكيف خلص الإسلام من الشوائب وبعض أمور الشرك التي علقت به وأعاد العقيدة الى ذروة نقائها وأوج قوتها كما كانت في صدر الإسلام، وبعد أن كان ذلك الشتات المترامي الأطراف تعمه الفوضى والجهل والفقر المضطجع، وتنتشر العصابات، وقطاع الطرق، في الحجاز، لانعدام الأمن، مما يعرض الحجيج والقوافل والتجار للسرقة، والنهب والقتل، فتبدل الخوف والشتات أمناً، فعندما تم تأسيس المملكة عام 1351ه كان من أهم مهمات الحكم السعودي محاربة الجهل في شتى صوره، وفي كل بقعة داخل الوطن، مهما كانت العقبات، فتبدلت البداوة تحضراً، والخوف والشتات أمنا، والصحراء بساطاً أخضر. أسس سياسة الباب المفتوح مع الرعية في أصدق صور الديمقراطية، تعزيزاً لمفهوم الشورى. وفي عام 1373ه رحل المؤسس الأول، تاركاً أسس ودعائم هذه الدولة أمانة في أيدي رجال حافظوا على العهد متخذين كتاب الله، وسنة نبيهم، دستوراً ومنهجاً لهم، إنهم رجال أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكما قال الله تعالى في محكم كتابه {كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ وّتّنًهّوًنّ عّنٌ المٍنكّرٌ}. وأصبحت مسيرة النهوض والتطور في المملكة مضرباً للأمثال مسيرة إعجاز وتحد بكل المفاهيم والمقاييس نظراً لما حققته من إنجازات في جميع مجالات الحياة الحيوية كماً وكيفاً، فما حققته البلاد في سنوات معدودة حققته دول العالم الأخرى في قرون من الزمن. وتميزت المملكة بالمواقف الحكيمة والسياسية المتزنة، الداعمة دائماً للتضامن العربي والإسلامي والمدافعة عن القضايا العربية والإسلامية العادلة، وخدمة الإسلام والمسلمين في أنحاء العالم كافة وتميزت بجهود رائدة من أجل الحفاظ على الاستقرار والسلام العالميين، لاحترامها والتزامها الدائم بالمواثيق والعهود الدولية وسعيها الدؤوب لتحقيق العدل والخير والسلام في العالم، وتميزت الدبلوماسية السعودية بسجل حافل بالمواقف المشرفة، في علاقاتها الخارجية مع دول العالم كافة وأصبحت لها نفوذها القوي في الأوساط العالمية، فهي عضو مهم ومؤسس لكثير من المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الأوبك، ومجلس التعاون الخليجي، وصندوق النقد الدولي. (تتفانى المملكة من أجل خدمة ضيوف الرحمن لتوفير الراحة والأمن لحجاج بيت الله الحرام والمعتمرين والزوار، حيث أنفقت أكثر من (72) مليار ريال على مشاريع توسعة الحرمين الشريفين) وإذا نظرنا إلى خارطة العالم العربي والإسلامي فلن نجد بلداً إلا وامتدت إليه أيادي المملكة البيضاء بالدعم المادي أو المعنوي أو كلاهما ولا توجد قضية عادلة في العالم إلا وكانت المملكة أكبر سند وأكبر داعم لها. على مليار ونصف مليار مسلم في العالم أن يقولوا: ماذا أخذت المملكة في المقابل لكل هذا التفاني؟ إن مسؤولية وحدة وأمن هذه البلاد من تداعيات العقيدة الراسخة، فعلى كل مسلم في العالم مسؤولية اتجاه دينه وعلى كل مسلم في العالم مسؤولية اتجاه أمن وسلامة هذه البلاد، فمن يضمر سوءاً للإسلام ومن أراد النيل منه ومن هيبته ينفث سمومه في عقر داره... وعلينا أن نعود إلى صفحات التاريخ، لتذكرنا كيف الرجال الذين أنجبتهم هذه الأرض، في الماضي البعيد والماضي القريب، صنعوا التاريخ، وصاغوا أحرفه من نور ودونوا أمجاده، واستطاعوا أن يرسموا أهدافهم وغاياتهم، ويصلون إليها وفق ما أرادوا، وجعلوا طموحاتهم، وأحلامهم، واقعاً بالفعل، فهذه الأرض التي أنجبت مثل هؤلاء الرجال لا تنضب أبداً، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم «الخير فيَّ وفي أمتي إلى أن تقوم الساعة». هكذا هم، في كتاب الله وسنة نبيه، وهكذا هم في ذاكرة التاريخ وفي أوراق العظماء.. [email protected] فاكس: 6066701-02 ص.ب: 4584 جدة 21421