إذا كان اثنان من أهم مؤرخي ودارسي الحركة الشعرية في جازان قد أثنيا على تجربة (إبراهيم صعابي) الشعرية وعدَّاه الأول من جيل المجددين للقصيدة في منطقة جازان واعتبراه الثاني من الجيل الذي زاوج بين المحافظة والتجديد، فإن ذلك يعني طول باع هذا الشاعر، وتسنمه مرحلة إبداعية تقود المشهد الشعري في جازان إلى التماهي مع المنطومة الشعرية في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية، وبالتالي في المشهد الشعري العربي. وعندما أُتيحت لي دراسة الشعر في جازان قسمت الشعرية الجازانية وروادها إلى نوعين أساسيين بحسب النص والشكل والمضمون، وهما: جيل المعمار الشطري.. أي أصحاب القصيدة البيتية/ العمودية/ وجيل المعمار السطري - أي أصحاب القصيدة التجديدية حيث التفعيلة والحداثة!! وكل نوع ينقسم إلى جيلين: - جيل القصيدة العمودية /المحافظة-التقليدية. - جيل القصيدة العمودية/ التجديدية. - جيل القصيدة التجديدية /التفعيلى/الشعر الحر. - جيل القصيدة التجديدية /الحداثة /والنثر. وقد صنفت (إبراهيم صعابي) في جيل القصيدة العمودية التجيدية.. مع محاولاته المتأخرة للولوج إلى جيل القصيدة التفعيلية مع التشبث بأصالة القصيدة في عموديتها والتجديد بشكلها وبنيتها ومضامينها. (2) وذات كتابات تعريفية /ناقدة، قلت عن الشاعر إبراهيم صعابي: إنه ينحاز لفن الشعر البيتي، وأنه مخلص جداً للغته الشعرية، ويتفانى في سبيل إنجاز مشروع شعري موسوم ب(الماء) ودلالاته من حياة وخصب ونماء الأمر الذي جعل ناقدتين أكاديميتين تتعرضان لهذه الميزة والسمة (المائية) في شعر إبراهيم صعابي. وهذا يعني أن تجربة أخي إبراهيم تحمل مشروعاً شعرياً/ ثقافياً يمتاز به، ويدل عليه. واليوم أقول عنه: إنه شاعر مسكون بالشعرية، متنام في خليليتها حد الاندماج والتماهي، يكسر رتابتها بنصِّ التفعيلة، فتورق بين يديه شاعرية خصبة ومتزنة، تضرب بأوتارها وأطنابها في البعد الإسلامي والعربي والوطني. قصائده ممهورة بالماء معنىً ومبنى، رمزاً ودلالة، تتسنبل القوافي عنده في لغة فاتنة وبلاغة جاذبة، وأبجدية مسكونة بالإبداع والتجديد. وعلى ذكر القصائد الممهورة بالماء، فإبراهيم صعابي الوحيد من جيله الذي تميز بهذه السمة الشعرية، وهي ما أسماها بعض النقاد «الشعرية المائية» لأن أغلب دواوينه تتشبث بهذا العنصر ومنه يفتق رموزه ودلالته. إبراهيم صعابي رغم انحيازه للبيت العمودي/ الخليلي والمحافظة على تجلياته، فهو على أصالته مجدد في بنيته ومضامينه، بما يتماشى مع روح العصر ومناخاته، ويكون شاهداً على العصر وأناسه، فهو رائد من روَّاد الشعرية المعاصرة في بلادنا السعودية. وإذا عدَّدنا سمات هذا الشاعر الفنية لوجدانها تتنامى عبر السمات والملامح التالية: 1-المحافظة على أصالة الموروث وتقنيات القصيدة العمودية. 2-التجديد المتقن في اللغة الشعرية، من حيث تفجيرها وتفتيق المعاني المبتكرة والصور البليغة، وتطوير الأساليب الشعرية والعنوانات التجديدية. 3-الإكثار من الرؤى التأملية والوقوف عند القضايا الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية بصفة عامة. 4-المحافظة على الوظيفة الشعرية كونها رسالة فكر ولغة وأخلاق. ولعل هذا كله يدعونا للوقوف أمام بعض التجليات الفنية والإبداعية من خلال مجمل التجربة الشعرية وعبر دواوينه السبعة التي صدرت حتى الآن، وسأتوقف عند ثلاثة من أبرز تلك الملامح: أولاً: التناصات الحيوية: وأعني بها تلك الاستدعاءات التضمينية التي تفاجئ المتلقي بتعلقها في الذاكرة بما سبق أن اكتنزه ذهنياً وقرائياً من المدونة الشعرية وغيرها، وفيها إحالات إلى نصوص سابقة من فضاءات مختلفة (قرآنية- دينية- تاريخية- أسطورية- تراثية (شعر حكمة مثلاً))، وتعطي النص الشعري جدة وحركية ومقبولية. فعلى سبيل المثال نجد عنده التناص القرآني في قصيدته «وقفات على الماء» من الديوان الذي يحمل العنوان نفسه ص125 عندما يقول: «اطلُّ على البحر.. «والفلك تجري» فأفقأ عينيكِ.. أغمض عيني.. رباه.. ماذا أرى ؟!» هنا تناص مع قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}. وقوله في قصيدة اعتراف من ديوانه «من شظايا الماء» ص25: وهنا تناص مع قوله تعالى: «...أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم». والأمثلة كثيرة في كل دواوينه الشعرية. وهناك التناص الشعري مثل قوله في قصيدة «أخاديد السراب» من الديوان الذي يحمل العنوان نفسه ص101 يقول: «ونغنِّي: وهذا يذكرنا بقول الشاعر عمرو بن كلثوم في معلقته المعروفة: وغيرها من التناصات الشعرية المبثوثة في دواوينه. وهناك تناصات أسطورية، وتناصات تراثية مع الحكم والأمثال، وغيرها لا يتسع المجال لذكرها. (للتوسع ينظر كتابنا: مساء الشعر يا جدة). ثانياً: الاسترفاد الرمزي والأسطوري وتوظيفه في النص الشعري، وأعني بها تلك الثقافة الجمالية الواسعة للشاعر التي يوظفها في ثنايا نصه الشعري كوسيلة بلاغية وتعبيرية سواء كانت رموزاً تاريخية أو شعبية أو أساطير ماضوية. فعلى سبيل المثال نجد الشاعر إبراهيم صعابي يسترفد صورة المعتصم/ الرمز الإسلامي في الإنقاذ والفداء وإسقاطه على الواقع العربي الراهن، يقول في قصيدة اعتراف من ديوانه «من شظايا الماء» ص23: «أختاه معذرة ما عاد معتصم فينا وكم أنكرتنا عروة النسب». كما نجده يوظف الرمز الجاهلي من خلال الفتاة (جذام) التي تدل على المصداقية في الخبر، وذلك في نصه «وحدى في الغبار» من ديوانه من شظايا الماء ص29: «وحدي أجيء ممزقاً.. للصمت نافذة وللأحزان قامتها المطلة خلفها قالت حذام: إذا المواني أبحرت لا تفرحوا فالبحر يغرِّقُ أنفساً ومواني ومن الأساطير نجده يوظف (الماء والبحر) بكل أبعادها الأسطورية وما فيها من طقوس كأعراس البحر، والمشي على الماء وتحولات الدم/ الماء والعكس في استدعاءات تناصية ترفد المعاني الإجمالية وتزيدها رسوخاً شعرياً. ثالثاً: الثنائيات الدلالية: وأعني بها تلك المفردات الشاعرية التي تحمل أبعاداً ثنائية، وتفجر مزيداً من الدلالات الإيجابية التي من خلالها ينمو النص في ذهنية المتلقي والقارئ. وتتجلى تلك الثنائيات فيما يمكن أن أصنفه تحت أنساق الوعي واللاوعي في ذهن الشاعر حال الكتابة الشعرية، ومنها ما يلي: ثنائية الخفاء والتجلي. ثنائية الحقيقة والافتراض. ثنائية الحياة والموت/ الميلاد والوفاة. ثنائية البياض والسواد. فمثلاً نجد شيئاً من تلك الثنائيات في العديد من عناوين دواوينه، وبالتالي في العناوين الداخلية للقصائد أخاديد السراب، هي والبحر، أجل ناظريك، أستاذة النحو. هي والقصيدة، صوت الحقيقة، خاتمة البوح، جرحان يا أمتي، كما نجد شيئاً من تلك الثنائيات داخل النصوص الشعرية، ففي قصيدة «خاتمة البوح» نجد ثنائية الوجه: «وجهان قد احتدما وجه.. يحملني والآخر أحمله « وفي قصيدة فاتنة الحلم الرملي: نجد ثنائية البوح والصمت وهناك الكثير من هذه الثنائيات لا يتسع المقال لذكرها. ومن هنا أقول: إن الشاعر إبراهيم صعابي لا يمكن قراءته بهذه العجلة ولابد من التحفز والاستعداد لقراءة متأنية، متجددة، تسير أغوار النَّص (الصِّعا بي) الذي لا يمكن أن يكتبه إلا الشاعر إبراهيم صعابي في لغة نحوية باذخة، ومفردات غنية بالجمال الشعري، وقوافي خليلية تشع ألقاً ومصداقية أو نصوص تفعيلية تتماهى مع التجديد والتنافسية!! والحمد لله ربِّ العالمين *من وحي الأمسية الشعرية لمنتدى عبقر بنادي جدة الأدبي مساء يوم الثلاثاء 12-4-1438ه التي أحياها الشاعر إبراهيم الصعابي وأدارها الدكتور يوسف العارف. - د. يُوسُف حَسَن العارِف