خطة أميركية تتضمن نزع سلاح حزب الله بحلول نهاية العام وانسحاب إسرائيل    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    أمانة عسير توقّع 6 مذكرات تفاهم لتطوير وتشغيل حدائق في مواقع متعددة    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    بونو حارس الهلال مرشح لجائزة أفضل حارس في العالم    النصر يدخل سباق التعاقد مع مهاجم برينتفورد    نائب أمير منطقة الرياض يقلّد مدير جوازات المنطقة رتبته الجديدة    NHC تُعلن اكتمال حجز المرحلة الأولى من مشروع "ترف" خلال أقل من 24 ساعة وتُطلق المرحلة الثانية    أمانة القصيم تعرّف بمهام استوديو التصميم المعماري ودوره في إثراء التصاميم المحلية    «تصميم الحياة»... خارطة طريق لتفادي التيه الذهني والمهني    نونيز يطير إلى ألمانيا من أجل الهلال    أمام "سي إي يوروبا".. الفريق الفتحاوي يفوز بأولى ودياته بمعسكر إسبانيا الخارجي    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    نتائج متقدمة ل"الموارد البشرية" في مؤشر نضج التجربة الرقمية للعام 2025    إيران تعدم مواطنا أدين بالتجسس للموساد    التخصصي" يحصد اعتماد "المركز الأمريكي لاعتماد التمريض" لبرامج التعليم التمريضي المهني المستمر    إحباط خطة لتفجير كنيسة في طرطوس    مؤسسة جائزة المدينة المنورة تعلن عن انطلاق جائزة فنون المدينة في دورتها الأولى    59% من منشآت القطاع الخاص دربت موظفيها على الحاسب    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    ديوان المظالم يعلن فتح باب التقديم على التدريب التعاوني    ارتفاع العجز التجاري في باكستان خلال يوليو الماضي    كوريا الجنوبية وأمريكا تطلقان مناورات عسكرية كبرى    رياح نشطة على معظم مناطق المملكة وامطار على الجنوب    بعد صفقة كوكا.. كالفو يعزز صفوف الاتفاق    بدء جلسات محاكمة قاتل القاسم.. ووزير الحج ينعيه    زيلينسكي يدعو واشنطن لزيادة الضغط على موسكو.. روسيا تدرس هدنة جوية مع أوكرانيا    تطبيق إلزامي لكود البنية التحتية بمنطقة الرياض    احتفال الفرا وعمران    أم ومعلمة تقتحمان مدرسة لسرقة «امتحانات»    في ذمة الله    محمد بن عبدالرحمن: مطار الملك سلمان يحول الرياض لمركز عالمي للنقل والخدمات اللوجستية    تتصدرها الفلل والشقق.. 5.4 مليار ريال تمويلات سكنية    وسط معارك متواصلة وتدهور إنساني حاد.. البرهان يتعهد بتحرير كل أراضي السودان    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    2 مليون دولار لتأمين «ابتسامة» نجمة هوليود    تفاهم بين الرياض وبغداد لمكافحة الإتجار بالمخدرات    فيصل بن مشعل يدشن مركز الملك عبدالعزيز للمؤتمرات بجامعة القصيم    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    الباحة.. أهلي ومطر    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    مفردات من قلب الجنوب 9    النائب العام يستقبل سفير جمهورية مصر لدى المملكة    فريق سفراء الإعلام والتطوع" يزور مركز هيئة التراث بجازان    66 مليون شجرة مساهمة القطاع الخاص بمكافحة التصحر    البلاسيبو.. عندما يتحول الوهم إلى شفاء    هل نقد النقد ترف أم ضرورة؟    5 جوانب أكاديمية ونفسية في التقويم الدراسي    السعودية والعراق توقعان اتفاقية في مجال مكافحة المخدرات    وزير الدفاع يبحث مع نظيره الأمريكي تطوير الشراكة الإستراتيجية    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    مركزي جازان ينجح في إزالة ثلاث عقد في الغدة الدرقية الحميدة بالتردد الحراري دون تدخل جراحي    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    البريد السعودي ‏يُصدر طابعًا تذكاريًا بمناسبة تكريم أمير منطقة ⁧‫مكة‬⁩ المكرمة ‬⁩تقديرًا لإسهاماته    تمكين المواطن ورفاهيته بؤرة اهتمام القيادة    صحن المطاف مخصص للطواف    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة هروب    مستشفى د. سليمان فقيه بجدة يحصد اعتماد 14 مركز تميّز طبي من SRC    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاسادي كتب ثورته في رسائل السجن
نشر في الحياة يوم 11 - 06 - 2015

في نهاية الأربعينات، تصل رسائل مراهق من ولاية كولورادو الأميركية إلى جامعة كولومبيا، في نيويورك. الطلاب الذين اطّلعوا عليها، امتدحوا جميعاً أسلوبها الفريد. هالدون شايز، الذي كانت هذه الرسائل موجّهة إليه، يجزم بأن صديقه نيل كاسادي كتبها في السجن بعدما سرق نحو 500 سيارة، وأغوى عدداً مماثلاً من النساء. لكن ما كان يجهله هؤلاء الطلاب، أن إعصاراً كان على وشك اجتياح قلوبهم وحياتهم معاً. إعصارٌ من الطاقة والكلمات والحب. ما كان يجهله هؤلاء أيضاً، أنهم سيؤسسون لثورة ثقافية واجتماعية سيبلغ صداها كامل المعمورة، ويدخلون التاريخ تحت اسم «جيل البيت» (بيت جينريشين).
ثمرة طموحات طائفة من الشعراء والفنانين الجانحين، واجهت هذه الثقافة المضادة، ثقافة أميركا الاستهلاكية، مفجّرةً في طريقها التقاليد الراسخة ومحرّرةً الأخلاق في شكلٍ لا سابق له. الأجيال اللاحقة حفظت أسماء جاك كيرواك وألان غينسبرغ وويليام بوروز، واعتبرتهم الوجوه المؤسسة لهذه الحركة. ولا شك في أن كل واحد منهم وضع، في حمّى هذه الثورة، تحفة أدبية طليعية («في مهب الطريق»، «صراخ»، «الوليمة العارية»). وبتحقيقهم سفرهم الداخلي الكبير عبر تنقّلهم الثابت داخل بلدهم، أعادوا إحياء الأسطورة الأميركية.
لكن رسائل كاسادي الأولى، مثل تلك التي كتبها لاحقاً لرفاقه وزوجاته الثلاث، تكشف واقعاً آخر، أكثر غنى وإثارة مما هو معروف، رسائل نتوقّف عندها اليوم لبقائها مجهولة حتى عام 2005، ولصدور ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار Finitude في جزءين: الجزء الأول (1944 1950) صدر العام الماضي بعنوان «شيءٌ جميل يتضمن كل شيء»، والجزء الثاني (1951 1968) صدر حديثاً بعنوان «مجنون بالحياة، بك وبكل شيء».
ما يتجلّى لنا لدى قراءة هذه الرسائل، أن كيرواك وغينسبرغ وبوروز لم يكونوا من المتمرّدين في بداية مسيرتهم، ولم يتطلّبوا شيئاً إلا من ذاتهم، ولم يروا أنفسهم كحركة طليعية. كل ما في الأمر، أنهم ساروا على الطريق الذي أرادوا أن ينفتح أمامهم، توجّههم ضرورة حميمة نحو ولوج البعد الروحي للوجود بطُرُقٍ جديدة. وبالتالي، قصّتهم هي، قبل أي شيء، قصة بحثٍ مشترَك، قصة مشروع وجودي كان يجمعهم ويمرّ حتماً بالكتابة. ويتعلّق الأمر بالاستجابة إلى دعوة الحياة التي جسّدها لهم كاسادي نظراً إلى تلبيته هذه الدعوة، قبل أي واحد منهم، بطاقة حيوانٍ مفترس.
ولكن مَن هو هذا الرجل الذي تسلّط على أرواح - وأعمال - رفاق دربه، وكشف لكيرواك الأسلوب الذي يتوجّب اتّباعه في الكتابة؟ تسمح رسائله الغزيرة بنسيان أسطورته لمصلحة حقيقته كإنسان.
حين وصل كاسادي إلى نيويورك، كان صيته قد سبقه إلى هذه المدينة. ولم تلبث فتنته وشخصيته المغناطيسية أن تُنجزا ما تبقّى من صورته. فبمعاشرته، اتّسع واقع رفاقه اليومي وصار كل شيء متوهّجاً، متفجّراً. ونظراً إلى حماسته وعبقريته وتحرّره من أيّ كبت، أصبح بسرعة الأخ والعشيق والنموذج. ولعلّ أفضل وصف لشخصيته المعقّدة والفريدة، ما كتبته زوجته كارولين عنها: «ماسةٌ خام بوجوه متعددة». ولفهم هذه الشخصية، لا بد من التذكير بالظروف الصعبة التي اختبرها كاسادي منذ نعومة أظافره، إذ فقد أمه في سن العاشرة، وعاش في شوارع مدينة دينفر مع والده المتشرّد والسكير. وبالتالي، ثقّف نفسه بنفسه ضمن طموحٍ في الارتقاء لن يغادره أبداً، ورغبة في تعلّم - وفهم - كل شيء، وفي ممارسة الكتابة. وإذ منحته حماسته ثقةً كبيرة بنفسه، فإن مرحه فتح له كل الأبواب.
ولأنه كان قادراً على عيش حيوات عدة في آنٍ، تعذّر على الآخرين التنبّؤ بسلوكه المتوتّر والمتهوِّر الذي أذهل الجميع. من هنا تساؤل كيرواك في شأنه: «أيُّ نور يلمع في روحه كي يكون على هذا النحو؟». في إحدى رسائله، يجيبه كاسادي: «لا أفعل شيئاً آخر سوى الاستسلام لما يتحكّم بي، أي الانفعال الصافي». وما إفراطه في التجارب سوى وسيلة لمنح معنى لما كان يعيشه، وتلبية رغبته في معرفة ذاته والتعبير عن نفسه. بعبارة أخرى، كان كاسادي عرضة لإثارة لا حدود لها، «كما لو أن كل شيء يصعقه في القلب ويلتهمه بنارٍ سرمدية»، على تعبير بوكاوسكي. وفي الواقع، اتّبع الشاعر غريزته بطريقة فضائحية، وجعل من كل شيء مصدر إلهامٍ له، علماً أن هذه الإثارة كانت تتوارى أحياناً أمام فترات اكتئاب طويلة.
أما كتابته، فعلى صورة طبعه. حيوية إلى أقصى حدود، تتناول موضوعات عدة في آن، وتتجاوز غالباً نيات صاحبها الذي كتب، لهذا السبب، بلا ترقيم، ملتصقاً بحبل أفكاره وأحاسيسه، ومخضعاً النحو لإيقاعه الداخلي. ومن موضوع إلى آخر، نراه يبتكر كلمات، يتوقف في منتصف مقطعٍ، ثم يتابع جملته ممدداً إياها إلى ما لا نهاية، قبل أن يقرر ختمها، تماماً كما كان يقود سيارته، أي متجنّباً الفرملة حتى اللحظة الأخيرة.
وفي الكتابة أيضاً، اختبر كاسادي وبحث، متلاعباً باللغة والمفردات حتى الإنهاك. وأحياناً، نستشفّ لديه صعوبة في الإمساك ب «رسن» كتابته، خصوصاً حين كان يكتب تحت تأثير الكحول أو المخدرات، كما نلاحظ تبنّيه أساليب عدة، وفقاً للشخص الذي كان يكتب إليه، وإدراجه اقتباسات ومقاطع من كتب مختلفة، وتيهه في اعتبارات مجرّدة، قبل أن يعود إلى موضوعه المفضّل، أي سرد فصولٍ من حياته.
لهذه الأسباب كلّها، اعتبره جميع رفاقه الكاتب الحقيقي بينهم، وصرّح كيرواك غالباً بأن رسائل كاسادي هي التي شرّعت أبواب الكتابة أمامه، وبأنه تدرّب أشهراً طويلة للكتابة مثله، بصيغة المتكلّم وبتفاصيل كثيرة، من دون الاكتراث لقوانين السرد المعهودة. ولأنه كان على يقين بأن صديقه سيصبح كاتباً كبيراً، جعل منه مادّته الرئيسة، فسجّل حواراته معه وزار أماكن طفولته ونسخ رسائله لدمجها في روايته «على الطريق».
عمل كاسادي طويلاً على سيرته الذاتية، «فتوّة أولى»، لكنه يئس مراراً من عدم تمكّنه من إنجازها، علماً أنه سيُنجزها، من حيث لا يدري، في رسائله التي تشكّل مجتمعةً أفضل بورتريه ذاتي له، ورواية مساريّة فريدة من نوعها تشكّل خير تعبيرٍ عن طبعه وحياته ومواقفه. ففيها، نستخلص عدم اكتراثه للمادّية السائدة، وحذره الشديد من الجمود الذي يفرضه المجتمع، ودعوته الملحّة لنا إلى الاختبار والابتكار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.