كان صدى طرح «الحداثة» عربياً له طابع «العراك»، خصوصاً في مرحلة تغذت فيها الحركات الإسلامية على أدبيات الصراع الفكري ودخلت على خط التكفير، أسهم ذلك العراك في تأخير سير الحداثة نحو الهدف المرجو، غير أن تلك الملاحظة التي تُطرح كثيراً خلال التحليلات التي تتحدث عن «انسداد التنوير العربي» أهملت دور «الحداثيين» في تأخير الحداثة، وهو الدور الذي يمكن رصده خلال دراسة أوسع، يمكن أن تتعرض لتاريخ صراع الحداثيين مع خصومهم وكيف سارت بهم الأمور، ومن جهة أخرى فإن الحداثة أيضاً لم تتبلور على هيئة مشاريع فلسفية ثقيلة في بداية طرحها عربياً، وإنما بدأت عبر كتابات هي أشبه بالخلاصات الناقصة والمليئة بالأخطاء، كما هي حال تأملات «الطهطاوي»، الذي وقع في مغالطات أثناء حديثه عن «هوبز» وقام بشرح ناقص لبعض النظريات التي عرفها أثناء رحلته لباريس. كان التأثير ضعيفاً على رغم أن النفَس الهادئ الذي طبع تلك المرحلة مقارنة برد الفعل العنيف الذي ستقوم به الأصولية ضد الحداثة سيزداد عنفاً في العقود التي تلت انفلات حركة الإخوان وصعود حركات الإسلام السياسي. يمكن أن نطرح سؤال ضعف التأثير الذي لم يكتمل مع الأخذ في الاعتبار ظروف تلك المرحلة المصبوغة بلون مقاومة غبار الاستعمار، وحيث بدء تشكّل الدولة القُطرية وثبات الارتباك السياسي الذي أخذ يحرس الاستبداد مع قدوم الحكومات العسكرية التي استقت مشروعيتها من دعاية محاربة الاستعمار، تلك مرحلة حيوية من الجيد وضع تأريخ تحليليّ لها، على رغم أن مدرسة طه حسين لم تنقرض، خصوصاً أن بعض الباحثين في الفلسفة يصرّون على أبوته الروحية لهم، خذ مثلاً: محمد أركون، وحسن حنفي. يصرّ بنعبد العالي على تحقيب تاريخ الحداثة إلى جزأين، وذلك في تفصيل طرحه ضمن كتابه «في الانفصال» في فصل تحت عنوان «من تملّك الحداثة إلى التغني بها»، فهو يأسف على تحوّل الحداثة إلى مجرد تنظير ذهني بعيداً عن أي أثرٍ لها على الفن والحياة والعيش، فلم نكن خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي نعقد الندوات المتلاحقة من أجل فهم الحداثة، وما قبلها، وما بعدها، غير أن تلك الحقبة – مع خلوها من التنظير - كانت أقرب إلى الحداثة مما هي عليه اليوم، حيث أخذ الإدراك يسود أكثر فأكثر، أن الثقافة ليست هذراً بقدر ما هي التفاعل النقدي مع الواقع، والآخر، والذات، فهي أكثر من مجرد تشربٍ عادي لنماذج! وصَف المؤلف تلك المرحلة بأنها تحمل بحقٍّ الروح التحديثية، مما جعل انفتاحها العملي يفوق اجترارها اللفظي، ورأى أن مرحلتنا الحالية مرحلة تنظير وغناء بالحداثة وأننا لم نتشربها بعد. أصبحت الحداثة مجرد أحلام عادية لتصير محض استغراقٍ أعمى لوجود زائف يقوم على الترنّم بالقديم والتمسك بالتقاليد، بعيداً عن مراجعة تامة وكاملة للموروث الذي يملأ الأذهان. لقد تشبّعت الشعوب من الخرافات والأباطيل، ولا يمكن لهذه الشعوب المغلوبة أن تنفكّ من عقدة هذا الواقع الجاثم إلا عبر قتل كل خرافة، والويل كل الويل لأمة تعيش على موائد الخرافات. من هنا تطرح الحداثة بوصفها أداة للانفصال المستمرّ الذي لا ينهي علاقة الكائن بتراثه، وإنما - كما يقول هيدغر - يجعل علاقة الإنسان بالتراث علاقة موشومة داخل الذات يجب ألا تدخل في نطاق المزايدة والتوهّم، وأن يطبع «الاختلاف» مسار التفكير، فالاختلاف والمغايرة تغذّي الهوية ولا تلغيها، كما يتوهم صغار الشانئين على التغيير والتجديد، في مرحلة تأسيس صروح تعليمية وتغيير مفاهيم كثيرة تتعلق بالذات والآخر والمرأة، إنها مرحلة مهمة من تاريخ التنمية في السعودية، فهل من مدّكر؟ [email protected]