دوخة شديدة وغثيان أشد مصحوبان بمحاولات عاتية لشد الحيل على رغم شدة السواد وقسوة الإرهاب. عاد المصريون إلى الشوارع بعد صدمة مذبحة سيناء الإرهابية التي ذيلت عطلة نهاية الأسبوع وإجازة رأس السنة الهجرية، وحالة من الوجوم عمت الشوارع ومشاعر متداخلة حيث غضب عميق وحزن دفين وشريط حداد أسود غير مرئي على جباه الجميع. «الشارع يدعم القيادة السياسية» ممثلة في الرئيس عبدالفتاح السيسي، أو هذا ما تعكسه النقاشات والحوارات، لكنه ليس دعماً «على بياض». فنبرة التأييد فيها غضب، ونغمة التعضيد فيها سخط وأحاديث المطالبة فيها تصعيد. «على السيسي أن يقطع عرقاً ويسيح دمه». المطالبة الرائجة شعبياً حالياً تبدو دموية لكنها تحمل في باطنها لوماً على التمهل ورفضاً للتمعن وتعجلاً للبت والجزم والحسم. إنها الكلمات الثلاث الأكثر تداولاً هذه الساعات، مرة بمثل شعبي يستدعي قطع عرق الإرهاب وتصفيته، ومرة بترديد صدى صوت خبراء الاستراتيجيا ومنظري البولوتيكا وباحثي الطبوغرافيا، ومرة بالحسبنة والدعاء على «الجناة» المتداولة أسماؤهم نهاراً جهاراً. أحاديث الشارع تتراوح بين اتهامات ل «المرشد ورجاله»، و «جناح عسكري» وأفراده، و «دول صغيرة شقيقة» وأخرى «كبيرة قريبة»، و «قوى كبرى بعيدة وأذنابها من جماعات صغرى كثيبة». تنفيذ العمليات الإرهابية أعاد المصريين إلى أجواء التسعينات لكن مع فارق كبير، بحسب ما أشار «عم فريد» المراسل التلفزيوني المتقاعد الذي جلس يترحم على إرهاب عقدين مضيا، وقت «لم يكن هناك فايسبوك يتهكم على الموت والموتى» أو «تويتر يفتي في ما يجهل» أو «جماعة تشمت في من يُقتَل وتهلل لمن يَقتُل». ولأن موقف «عم فريد» يتطابق إلى حد كبير مع الكثيرين من أبناء جيله غير الضالعين في شؤون الإنترنت، فقد جن جنونه واحتدم غضبه حين قرأ عليه حفيده نص كلمة «الرئيس» إلى «الشعب المصري العظيم». الكلمة المنسوبة للرئيس السابق المحبوس الدكتور محمد مرسي ل «شعب مصر العظيم» كانت كفيلة بإشعال الغضب وتأجيج الكمد وتعميق الفروق الشاسعة بين الجماعة وأتباعها من جهة وبين بقية المصريين من جهة ثانية. الرسالة المستهلة بتهنئة المصريين بالعام الجديد بدت أقرب ما تكون إلى التهييج والتحريض، حيث الإشادة بالوطن «وهو في ذروة ثورته وشبابه»، والإعلان عن أن صدره منثلج باستمرار الثورة، مع إصدار الأوامر للثوار الفاعلين على الأرض بأن لا اعتراف ب «الانقلاب»، مع إشارة إلى أنه «لم ولن ولا ينسى أبناءه من المجندين الشهداء» محملاً «الانقلاب» مسؤولية مقتلهم. أصابت الرسالة شرائح واسعة من المصريين في مقتل كوميدي موقت أججه عمل دؤوب للجان الجماعة الإلكترونية التي غرّدت باسم مرسي ودوّنت على صفحته «الرئاسية» مبشّرة مريديه بأنها دقائق ويطل عليهم. إلا أنها أصابت كذلك محبيه في مقتل «فانتازي» ناجم عن عشق للرئيس «الشرعي» وإيمان بأنه «راجع إن شاء الله». وقد شاء الله أن يجمع المصريين، قبلي وبحري، مسلم ومسيحي، في جنازات وتأبينات وصراخات وبكاءات على رجال الجيش المغدورين، حيث شيعهم جيش واحد وبكتهم أم بملامح واحدة وواراهم ثرى واحد ورفعوا مطلباً واحداً ألا وهو القصاص والحسم في اجتثاث الإرهاب. اجتثاث الإرهاب وجد نفسه لقمة سائغة لأصحاب الشهيات المفتوحة والهوايات الموؤودة والملكات المدفونة والشاشات الموصولة بالشبكة العنكبوتية التي تحولت إلى معاصف ذهنية ومقاصل فكرية ومهاترات عسكرية ومهاطلات استراتيجية ومخابل سياسية – لا سيما في ظل دعوة منسوبة ل «داعش» لاستهداف المدارس والسفارات الأجنبية والمؤسسات السيادية في القاهرة - حيث يدلي القاصي قبل الداني بدلوه في أدق تفاصيل العمق الاستراتيجي والبعد التكتيكي والبعد القصاصي، وجميعها يتم إعادة تدويره بتصرف واجتهاد في أثير العنكبوت. أما أثير الشارع فينتظر تحليق الطائرات العسكرية وتفعيل القرارات السياسية ونتائج إعلان الحرب على الإرهاب سواء كان قادماً عبر الحدود أو الأنفاق أو الحسابات البنكية أو الأفكار الجهادية أو الأيادي الإقليمية أو الجماعات الداخلية، وذلك أملاً في إنهاء الدوخة.