مع «النجاح الكبير» الذي أظهرته قوى الأمن الفلسطينية منذ تأسيسها بناءً على اتفاقيات أوسلو، وقيامها بما يطلب منها من «ضبط للأمن» وخدمة سكان الضفة وغزة، اضافة الى التنسيق الأمني العالي بإشراف جنرال أميركي، فإنه من المطلوب منا عدم الاعتراض «بحقد!» على تخصيص 35 في المئة من موازنة السلطة الوطنية للأمن. ومن الطبيعي ان نُتهم بالتطرف وخدمة أجندات خارجية اذا تجرأنا وقارنا ذلك بموازنة التعليم العالي التي تصل الى 1.2 في المئة. ومن الطبيعي في هذه الحال أيضاً أن يُقال أن هذه المقارنة ظالمة. كان من الأجدر لشعبٍ مر بتجارب قاسية، من تطهيرٍ عرقي وتشريد شبه كامل في بقاع الأرض، نتيجة استعمار استيطاني، تأثير ذلك على هويتة الوطنية والثقافية، وما صاحب ذلك من خسائر ماديةٍ هائلة، أن يتم التركيز على سلاحٍ غاية في الأهمية هو سلاح التعليم، فقد تباهى الفلسطينيون لفترة طويلة بإنجازاتهم العلمية وتفوقهم في الجامعات العربية. وكانت كل عائلة في مخيم أو مدينة، على استعدادٍ لبيع كل ما لديها في سبيل أن يحصل ابنها أو ابنتها على درجةٍ جامعية. إذاً، عُد التعليم العالي استثماراً للعائلة وللقضية في الوقت نفسه، فهو يساهم في صعود العائلة السلم الطبقي ولو لدرجة واحدة. كنا نتباهى، وعن حق، بأننا ساهمنا في تعليم أبناء الدول الخليجية، وأننا محونا الأمية، وأن لدينا أعلى نسبة من الخريجين الجامعيين والحاصلين على درجاتٍ عليا. ألا يكفينا أن أكبر مفكري القرن العشرين، إدوارد سعيد، فلسطيني من مواليد القدس؟ وأهم شعراء المقاومة، في القرن نفسه، محمود درويش من مواليد قرية البروة في الجليل؟ وأن من أوجد مصطلح «أدب المقاومة» هو غسان كنفاني ابن مدينة عكا؟ ومن ابتدع ايقونة المقاومة «حنظلة» هو ناجي العلي ابن قرية الشجرة، قضاء عكا؟ والقائمة تطول. من الطبيعي في هذه الحال أن تقوم اسرائيل باستهداف العقل الفلسطيني، حيث إن تحرير هذا العقل كان هدفاً رئيساً لحركة التحرر الوطني الفلسطيني مصاحباً لهدف التحرير الشامل، قبل تصغيره ليصبح إقامة دولة فلسطينية (مستقلة) على 22 في المئة من أرض فلسطين، وبالتالي إعادة تعريف الشعب الفلسطيني ليصبح فقط سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وهكذا، بعد أن كانت اسرائيل تقوم بتصفية المفكرين الفلسطينيين، وتدمير مراكز البحث الفلسطينية، كما حصل في بيروت، أغلقت الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لفترات طويلة. ومع انشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، تحول عبء إدارة الشؤون اليومية والصحة والتعليم في غزة ومعظم الضفة الغربية إلى السلطة الناشئة. وأي قراءة دقيقة للاتفاقيات توضح الأهمية القصوى التي توليها للجانب الأمني على حساب الحقوق الرئيسية للمستعمَر (بفتح الميم) المضطهَد (بفتح الهاء) في هذه المعادلة. وهكذا، بدأت عملية «أسلوة» العقل الفلسطيني من خلال إعادة ترتيب الأولويات، بحيث لم يعد التعليم في المقدمة، ولم يعد سلاحاً بالأهمية السابقة نفسها، على رغم تزايد عدد مؤسسات التعليم العالي وارتفاع نسبة الخريجين وحاملي الدرجات العليا. ومع ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض معدلات الدخل، أصبح المواطن الصغير السن أمام خيارين: إما الانضمام لأحد الأجهزة الأمنية أو إحدى الجامعات المنتشرة في ربوع الوطن! وأصبحت الجامعات نفسها، التي ازداد عددها بشكلٍ كبير، تفرخ أفواجاً من الطلاب يفتقد كثيرون منهم أبجديات التخصص الذي تخرج منه. وصاحَبَ ذلك نمو عقيدة أمنية عملت على تغيير مفهوم «الآخر»، بحيث أصبح من كان جزءاً من الأنا الوطنية-الثقافية عدواً يجب الغاؤه، بل تداخل العمل الأمني مع الأكاديمي، وأصبح من الممكن لجهاز أمني تحديد اسم من يرأس مؤسسة أكاديمية، وأصبح هناك مكاتب للأجهزة في بعض الجامعات. بل الأنكى من ذلك أن يستقوي أكاديمي على آخر من خلال قربه من جهازٍ أمني. وأصبح العديد من العاملين في الأجهزة طلاباً جامعيين سعياً لتحسين وضعهم في الجهاز. وأصبح لقب «دكتور» مؤشراً على منصبٍ اجتماعي أكثر من كونه يحمل مضموناً أكاديمياً، فكرياً، وثقافياً! بل إن العديد من قادة الأجهز الأمنية، أو العاملين فيها، يسعون للحصول على درجاتٍ عليا حباً باللقب! وتكمن أزمة الأكاديمي الحر، ذي الروح المعذبة، الذي يقاوم كل المغريات، ويرفض ان يتحول تاجر شنطة يتنقل بين الجامعات لأخذ ساعات إضافية تساهم في تدهوره الأكاديمي والبحثي، ويرفض الانصياع للضغوط الأمنية، في أنه يحشر في الزاوية وعليه أن يختار بين ما يؤمن به من حرية فكرية وفكر نقدي بنّاء يتجاوز الزوايا الأيديولوجية الضيقة التي تميز بعض الجامعات، وبين التنكر لهذه القيم الانسانية العليا! أن أحد أخطر خطايا الكم الهائل من الدرجات الأكاديمية العليا التي امتلأ بها الوطن، وان كانت من غير مضمون وانجاز بحثي أكاديمي متميز، هو نتاج الخلط بين الأكاديميا و «البزنس». وحينما دخلت الفصائلية القبلية على الخط، وأصبحنا أمام خيار إما-أو، كانت الضحية الأولى هي المهنية، متبوعة بتغييب كامل للتفكير النقدي الخلاق. علينا أن ننظر في المرآة جيداً، وألاّ ندير وجوهنا للناحيةِ الأخرى عندما نرى وجهاً لا نحب أن نراه! فالتعليم هو ما تبقى لنا، ليس فقط لتحرير الأرض، بل لتحرير العقل أيضاً. فهل تتدارك السلطة الوطنية الفلسطينية -بشقّيها- الأمرَ وتخصص الجزء الأكبر من ميزانيتها للتعليم، كما تفعل العديد من الدول المتحضرة؟