تفوقت قمة الدول الاميركية التي التأمت أخيراً في قرطاجنة دي اندياس الكولومبية على اجتماعات القمم العربية في اعلان عجزها عن التوافق على بيان حد ادنى من التوافق. فقد انتهت تلك القمة (16-17 نيسان - ابريل) من دون اصدار اعلان ختامي نتيجة عدم التوصل الى اتفاق بشأن قضايا خلافية. ومع ذلك، قال الرئيس الكولومبي جوان مانويل سانتوس انه يشعر «برضى بالغ» إزاء نتائج القمة التي وصفها بأنها «قمة حوار وإخلاص»... لأن المشاركين ناقشوا نطاقاً واسعاً من «الموضوعات الساخنة، الامر الذي لم يفعلوه من قبل... وقاموا بذلك بطريقة محترمة ومباشرة وصريحة». لكن، لماذا لم يصدر البيان الختامي على رغم النقاش المحترم؟ ما لم يقله الرئيس الكولومبي يعرفه الجميع. والسر الشائع هو ان اميركا لا تزال ترفض حضور كوبا في هذا النوع من القمم التي تُنظم منذ العام 1994 بعدما فرضت عليها حصاراً قاسياً منذ 1961 واتخذت قرار طردها من منظمة الدول الاميركية قبل نصف قرن. عملياً، دار النقاش في قرطاجنة حامياً حول هذا الموضوع، إلا ان الرئيس باراك اوباما بقي متمسكاً بنهج أسلافه منذ جون كنيدي، وفي تبريره لموقفه ان كوبا «لم تبد أي اهتمام بتعديل علاقاتها مع الولاياتالمتحدة»، والكلام الأوضح قاله مساعد مستشاره لشؤون الامن القومي بن رودس: «قلنا ونكرر انه سيأتي يوم نرحب فيه بكوبا ديموقراطية تشارك في قمة الاميركتين. لكن للأسف هذا اليوم لم يأت بعد». لم يأت هذا اليوم لأن قرار الحصار ساري المفعول منذ نحو50 عاماً. وهو حصار يعيق التطور الاقتصادي للجزيرة تواكبه حرب إعلامية مستمرة من محطات في فلوريدا (مارتي)... لقد تغير العالم كلياً منذ ان فرض هذا الحصار، إلا ان الولاياتالمتحدة لم تعدّل موقفها المبدئي، وكأنها ذلك الجندي الياباني الذي اكتُشف في الادغال مختبئاً وفي اعتقاده ان الحرب العالمية لم تنته بعد... وعلى رغم التطور الايجابي في العلاقات خلال ولايتي بيل كلينتون، لا يزال الحصار عنواناً لموقف الادارة تخرقه رحلات جوية مباشرة وزيارات لشخصيات فنية وثقافية وسياسية من جيسي جاكسون الى فرنسيس فورد كوبولا، يمكنها التمتع بمشاهدة صور قديمة لأقران لهما تزين جدران فندق «هافانا ليبري»، هيلتون سابقاً، الذي شهد فرار الديكتاتور باتيستا ليلة رأس السنة 1958. هنا سيجدون صوراً لفرانك سيناترا وإيفا غاردنر ومارلين ديتريش وغاري كوبر... وسيزورون منزل ارنست همنغواي وفندق ناسيونال ويسترجعون تاريخاً لهافانا التي كانت قبل الحصار تحوي من دور السينما اكثر مما حوته نيويورك او باريس. يشبه الغضب الاميركي على كوبا غضب زوج على طليقته. اذ لا تفسير له الآن سوى في التاريخ والذكريات. صحيح ان العلاقات بين البلدين توترت في زمن الصراع بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، ما برر في حينه حصاراً على الجزيرة القريبة المتمردة، إلا ان انهيار المعسكر الاشتراكي وانسحاب كوبا من المشاركة في حروب التحرر الوطني في افريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لم يتركا عذراً لمواصلة سياسة العداء، فباتت الديموقراطية مشجباً لسياسة اميركية غير مقنعة تواصل غضبها على كوبا وتتعاون احياناً كثيرة مع اسوأ الديكتاتوريات في العالم. غضب الحنين الى زمن أفل هو الذي يغذي سياسات قوى ومراكز نفوذ في الولاياتالمتحدة. ففي عام 1898 ساندت واشنطن حرب الاستقلال الكوبية ضد الاسبان وانتشر الاثرياء جنوباً لتتحول الجزيرة الى مزرعة ومنتجع للأميركيين الباحثين عن الثروة واللهو. استقبلت هافانا في 1958 ثلاثة ملايين سائح اميركي شمالي، وهي اليوم تفخر بأنها استقبلت مليوناً من السياح الاجانب. استرجع الكوبيون استقلالهم الثاني مع فيدل كاسترو، فشعر كثيرون في الشمال انهم فقدوا شيئاً غالياً. بكّر فيدل كاسترو في طرح تصوراته لمرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لم يعارض القائلين بأن العبرة من هزيمة موسكو في الحرب الباردة هي ان نظاماً من دون ديموقراطية واقتصاداً من دون سوق يقودان الى الكارثة، وأكد انه لم يعد هناك وجود لنموذج يحتذى في السياسة وأن احداً لا يدرك اليوم ماذا اصبح يعني مفهوم الاشتراكية، مضيفاً ان شرعية مناهضة العولمة الليبرالية لا تبرر أي لجوء الى العنف... (لوموند ديبلوماتيك - نيسان 2002). تضامنت كوبا مع اميركا ضد الارهاب الذي طاولها في 11 ايلول (سبتمبر) 2001 واكتفى بوش الابن بعدم إدراجها في لائحته لدول «محور الشر»... ولم يتغير الكثير. بقيت كوبا منبوذة من واشنطن على رغم التصويت السنوي العشرين للجمعية العامة للامم المتحدة الى جانب رفع الحصار بغالبية 187 دولة ضد اثنتين، واستمر اوباما يتعامل معها استناداً الى «قانون التجارة مع الأعداء». كان هذا المنطق يلقى تجاوباً في السابق من غالبية دول اميركا اللاتينية، إلا ان اميركا تلك تغيرت. من تشيلي الى الارجنتين ومن بوليفيا الى فنزويلا، حل سجناء سياسيون سابقون وناشطون في حروب العصابات في قيادة تلك البلدان، بمن فيهم رئيسة اكبر دولة بينها، البرازيلية ديلما روسيلف... وتشكلت قوة ضاغطة يسارية ضمن مجموعة «البا» التي تضم كوبا وفنزويلا وبوليفيا والاكوادور ونيكاراغوا وغيرها، وربحت كوبا في قرطاجنة. لم يكن غياب البيان الختامي إلا تعبيراً عن الواقع السياسي الاميركي اللاتيني الجديد. فدول وسط القارة وجنوبها غير راضية عن سياسة عزل كوبا وكثرة منها ربما لن تشارك في قمة لاحقة اذا منعت كوبا من الحضور. يحق لكوبا ان تغتبط لمسار الاحداث هذا. هي كانت تراقبه. فيدل كاسترو خصص له مقالاته في «غرانما»: يوم 17 نيسان لاحظ ان كلمة الامين العام لمنظمة الدول الاميركية جوزيه ميغيل انسولزا خلت، أقله، من التشديد على احترام سيادة هذه الدول (جزر المالوين مثالاً). وتابع وصول القادة بتهكم: «اوباما كان الوحيد» الذي استفاد من المسافة الفاصلة ليقوم ببعض التمارين... استفاد من كونه وحيداً ليقفز الدرجات الفاصلة رياضياً وصولاً الى منصة استقبال الرؤساء. لاحظ فيدل ايضاً الحضور النسائي: اثبتن ان العالم يسير في شكل افضل اذا اهتممن بالسياسة. استعاد مطالبة رئيسة البرازيل في القمة بعلاقات متكافئة مع بلادها وسائر دول اميركا اللاتينية، فيما كان اوباما منهكاً «يغمض عينيه رغماً عن ارادته وينام احياناً بعينين مفتوحتين». لم يعد الحصار مبرراً ولا مقبولاً. كثيرون في واشنطن يرغبون بالسيجار الكوبي الفاخر... لكن، يسأل كاسترو، أعلى الصفحة. من الشعب الى الشعب ما برح الحصار الذي تفرضه الولاياتالمتحدة يؤثر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب الكوبي، وبخاصة الفئات الأشد ضعفاً. وذكر «صندوق الأممالمتحدة للسكان» أن علاج الأطفال والشباب ممن يعانون من سرطان العظام والمرضى بسرطان شبكية العين ليس متاحاً بيسر لأنه يخضع لاعتبارات تجارية بموجب براءات الاختراع الأميركية. كما أثر الحصار في الحصول على العقاقير المضادة لعودة الفيروس التي تُستخدم في علاج الأطفال الذين يعانون من مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) والفيروس المسبب له. يُذكر أنه في ظل شروط الحصار الأميركي، لا يجوز أن تُباع إلى كوبا أية معدّات طبية وأدوية مصنعة بموجب براءات اختراع أميركية. وفي أيلول، قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما تمديد العقوبات الاقتصادية والمالية ضد كوبا كما ينص عليها «قانون التجارة مع الأعداء». وفي آب (أغسطس)، قرر الرئيس الأميركي تخفيف بعض القيود على التنقل بالنسبة الى الجماعات الأكاديمية والدينية والثقافية بموجب سياسة «من الشعب إلى الشعب». وللعام التاسع عشر على التوالي، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بغالبية ساحقة (187 صوتاً مقابل صوتين) يدعو الولاياتالمتحدة إلى إنهاء الحصار الذي تفرضه على كوبا. ما العمل اذا كان العالم خضع في لحظة ما الى رجلين احدهما جورج بوش الابن الذي فاز في انتخابات مشكوك بنزاهتها، وثانيهما بوريس يلتسين الذي وقع قرار ازالة الاتحاد السوفياتي من الوجود بعد استهلاكه ثلاث زجاجات من الفودكا؟