«النظام قويّ»!... يقولها، ويكزّ على الياء، ويمطّها، في معنىً للتأكيد، والوثوقية من القول. ليس المهم من هو القائل، ولا من يكون. لا ضرورة لمعرفة اسمه، ولا إلى أيّ انتماء ينتسب. المهم أنه نموذج فاقع الدلالة على سلسلة كان لها أن تنقطع عام 2011، إبّان موسم «ربيع الثورات العربية»، وأن تنتهي قبيل نهايته، عظةً وعبرةً! لكن الكثير من أفراد هذه السلسة ما زالوا يحتلون مساحات وافية على شاشات التلفزة العربية، وينتقلون معها إلى العام الجديد، الذي يبدو أنه سيبحر إلى «ربيع» آخر، ربما يكون أشد فتكاً في الواقع، وأعظم وهماً على صعيد الكلام. على حافة النهايات؛ نهايات عام، ونهايات جولة أولى من «موسم ربيع الثورات العربية»، وعلى عتبة بدايات أخرى، تتكثّف غيوم غموضها، وتتقطَّر دماً، تستعيد شاشة التلفزيون هذه العبارة، ضمن باقة إعلانات متكرّرة يومياً، وكأنها تريد تأكيد ذاكرة الفضيحة، وإيصالها إلى من لم يسمع بها من قبل. لا رحمة للشاشة هاهنا! إنها لا تغضّ الطرف عمّا قاله لسان سلطة بائدة، ولا تغفر له الخطيئة التي اقترفها. لم تزجّ بما قاله في دوائر النسيان، التي طالما طاولت الكثير مما فاض من كلام على شاشات التلفزيونات العربية. هذه المرة يبدو أن التلفزيون يعيدنا إلى سؤال الذاكرة، ويلحّ عليها، بلؤم شديد! هل للتلفزيون ذاكرة؟ دائماً اعتاد السينمائيون تداول مقولة مفادها بأن «الذاكرة للسينما، والتلفزيون للنسيان». لا ذاكرة للتلفزيون، يقول السينمائيون، ويطمئنون إلى فرضيتهم هذه من دون العودة إلى التمحيص والتدقيق بها، مهما تغيّر الزمان! منطلقهم في هذا أنه يمكن للمرء أن يعود لمشاهدة الفيلم السينمائي، مرات عدة، حينما وحيثما يشاء، فطيلة قرن مضى ما زال الكثير من الأفلام يُستعاد، بينما لا يمكن لمتابع التلفزيون أن يعود لمشاهدة نشرة الأخبار ذاتها، ولا البرنامج ذاته، ولا حتى المسلسل التلفزيوني ذاته! ولكن ماذا عن الإعلانات (البروموهات) التي يمكن أن تتكرَّر يومياً؟ ماذا عن العبارات التي قذف بها قائلوها ذات وقت، من دون أن يدركوا أنهم سيندرجون على قوائم ذاكرة الفضيحة، التي تكشف كم كانوا غافلين عن حقيقة الواقع، ومفاجآته، جاهلين بأموره، سادرين في مهماتهم الوظيفية، التي ظنّوا أن لا أفق بعدها، مع قياداتهم التي ظنّوا أنها أبدية؟ صحيح أن التلفزيون، مُطالب بالجديد دائماً؛ بالركض المستمر، مواكباً اللحظة الراهنة، وأختها المقبلة، وبما لا يتيح له التوقّف، أو التأمّل، ولا الاستدراك! وصحيح أنه محكومٌ ب «اللهاث»، إلى درجة أن الاستعادات الطفيفة التي يضطر لها، في أوقات بثّ يومية نافلة، تثير تبرّم المشاهدين، والتعامل الصارم بأجهزة التحكم، الماهرة في تقليب صفحات الشاشات، ومحوها من المشهد... ولكن، وعلى رغم أن «زبون التلفزيون» لا يطيق العودة لمشاهدة ما سبق أن رآه، وأنه لا يرضى باستعمال بضاعة سبق لها أن تناولها، غير أن عبارة واحدة مرّت ذات وقت، وباستعادتها تضيء ذاكرة الفضيحة، ستكون أكثر وقعاً، وفضحاً، من عشرات الأفلام.