عادت أندونيسيا إلى دائرة الأضواء وعادت صور الذبح والتشويه واللاجئين الهاربين من الموت تغطي صفحات الإعلام وشاشات التلفزيون في العالم، في ما يمكن تشبيهه بعودة إلى الوراء ... إلى الكارثة التي أوصلت تيمور الشرقية إلى الاستقلال. فهل تكون الأحداث الدامية التي يشهدها نصف جزيرة بورنيو الأندونيسية بداية لانسلاخها عن أندونيسيا؟ في ظل صراع إثني متواصل منذ سنوات تبدو الأحداث كبداية لحلٍّ مؤلم مهما كانت نتيجة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها السلطات. ولا بد للمجازر التي وقعت في سامبيت عاصمة محافظة كاليمتان، وذهب ضحيتها حتى منتصف الاسبوع الماضي حوالي 1300 قتيل - ومن المحتمل أن يكون الرقم أكبر بكثير - أن تؤثر على مستقبل نصف الجزيرة الأندونيسية وعلى علاقتها مع الدولة خصوصاً الغالبية المسلمة في جاوا أكبر الجزر الأندونيسية وأكثرها كثافة سكانية، ومركز القوى السياسية المسيطرة على البلاد منذ الاستقلال. ويعود تاريخ الصراع الإثني بين السكان الأصليين وهم بغالبيتهم من قبائل "الدياك" والسكان القادمين من جاوا إلى حوالي 80 سنة حين بدأ سكان جاوا بالخروج من جزيرتهم والتوجه نحو الجزر الأخرى التي كان سكانها يعيشون حياة بدائية وسط الغابات من دون زراعة مكتفين بالصيد والتقاط الثمار. وكان وراء هجرة سكان جاوا العديد من الأسباب منها الهرب من الاستعمار الهولندي وإرسالياته التبشيرية ومحاولة فرض أنواع زراعة معينة حسب متطلبات شركات الاستثمار الاستعمارية. وزادت هجرة الأندونيسيين إلى الجزر المجاورة قبيل الحرب العالمية الثانية ووصول المستعمر الياباني الجديد بعد طرد الهولنديين. ولكن على رغم ذلك لم يكن عدد المستوطنين الجدد كبيراً، وكان احتكاكهم مع السكان الأصليين قليلاً جداً. وقد سمحت هذه الهجرة لأندونيسيا، خصوصاً الجزيرة الكبرى جاوا، بالمطالبة بكل الجزر التي تحيط بها بعد انهيار الاستعمار، استناداً إلى أن معظم هذه الجزر يسكنها أندونيسيون. وفي حينها كانت البرتغال لا تزال متمسكة بتيمور الشرقية فيما ألحقت تيمور الغربية بالدولة الأندونيسية. وكذلك تم تقسيم بورنيو إلى شطرين على أساس أن الشطر الغربي تسكنه غالبية أندونيسية، وكذلك الأمر بالنسبة الى جزيرة إيريانا جايا الغنية التي قسمت إلى قسمين وأعطيت أستراليا حق إدارة القسم الشرقي، فيما آل القسم الغربي لأندونيسيا. وتطالب هذه المقاطعة بالاستقلال تحت اسم ببوازي الغربية على خلفية صراع ديني بين المسيحيين والمسلمين يستعر من حين لآخر وخلّف ما يزيد على ثلاثة آلاف قتيل في السنوات الأخيرة. وبعد الاستقلال، خصوصاً في السنوات الثلاثين الأخيرة بدأت السلطات المركزية بتنظيم هذه الهجرة بشكل يسمح بتخفيف الضغط عن الجزيرة الوسطى جاوا واستغلال الأراضي الزراعية بشكل مكثف لتأمين الغذاء لأكثر من 200 مليون نسمة. وينتمي معظم ضحايا المجازر الأخيرة إلى هذه الفئة، ومعظمهم جاء من منطقة مادورا بمساعدة الحكومة الأندونيسية التي كانت تنظم هجرتهم وتؤمن لهم أراضي لاستغلالها زراعياً. وكذلك استغلال غابات الجزيرة لاستخراج أخشابها خصوصاً نوع موغانو المعروف. ومع اتساع رقعة الهجرة داخل الغابات والمناطق النائية، بدأت الاحتكاكات مع السكان الأصليين، خصوصاً أن سكان الغابات الذين وصلت إليهم الحياة المدنية بدأوا حركة انتقال نحو السهول للعمل في الحقول والمزارع. وقد خرج الصراع بين السكان الأصليين والمهاجرين بعد انهيار حكم سوهارتو الصارم وتراخي قبضة الدولة وانحسار قوة الجيش الذي كان يحمي السياسة الزراعية للدولة التي كان الضباط يستفيدون من عمليات نهب الغابات وتهريب الأخشاب الثمينة التي تنظم المعاهدات الدولية تجارتها. وتمحور الصراع في السنوات الأخيرة حول النزاع بين قبائل الدياك وهي تشكل غالبية السكان الأصليين وبين المهاجرين القادمين من مادورا، ولا يخفي قائد المنطقة الجنرال بنبانغ برانوتو الذي عجزت قواته عن وقف المجازر، أنه من الصعب وقف أعمال القتل والتدمير ما لم يخرج جميع "المادوريين"! والواقع أن تصرف الجيش وحضوره الرمزي 900 عسكري لحماية مقاطعة كاملة على رغم أن أعمال العنف في السنوات الأخيرة سنتي 1997 و1999 تركت ما لا يقل عن 2000 قتيل، يثير الكثير من التساؤلات حول أهداف الممسكين بالدفة العسكرية في العاصمة. واللافت ان معظم اعمال القتل تتم بالخناجر والهروات في العاصمة سامبيت على مرأى وسمع الجنود النظاميين الذين لا يحرّكون ساكناً لانقاذ السكان. ويذكر هذا بالاتهامات التي وجهت للجيش الأندونيسي إبان مذابح تيمور الشرقية التي انتهت باستقلال المقاطعة. فهل قرر المعنيون بالقرار في أندونيسيا التخلي عن المقاطعات التي تطالب بالانفصال وإعادة عقارب الساعة الى ما قبل الاستقلال؟ في الواقع تدل سياسة الحكومة الاندونيسية على هذا الاتجاه، فهي لم تخصص أي جهد للنهوض بهذه المقاطعات لا على الصعيد التنموي أو الصحي ولا على الصعيد الإنماء الصناعي منذ الاستقلال، اذ اكتفت باستغلال ثرواتها الطبيعية، فيما ركزت جهودها التصنيعية والنهضوية على جزيرة جاوا حيث الثقل الاقتصادي والمالي والسياسي. وهذا ما يسمح للسلطات بالتركيز على القسم المفيد إقتصادياً من البلاد مع إمكان توقيع معاهدات مع المقاطعات تحفظ "لأندونيسيا أو ما تبقى منها" حصة الأسد في استغلال الثروات الطبيعية ويكون لشركاتها الأولوية في المشاريع وعمليات الإعمار والتطوير التي لا بد منها في مرحلة ما بعد "الاستقلال". هذا السيناريو ليس مستبعداً في ظل المعطيات الجديدة التي تحكم سياسة أندونيسيا المرتبطة مباشرة بالمنظمات المالية العالمية. ولوحظ أن البنك الدولي كان أول من علّق على أحداث المجازر مطالباً الحكومة الأندونيسية ب "ترتيب أوضاعها الداخلية وإيجاد حلٍ للعنف إذا ارادت الخروج من أزمتها الاقتصادية...". ففي ظل النظام المالي العالمي الجديد لا وجود للنزعات القومية، طالما أن المصالح الاقتصادية محفوظة، خصوصاً في بلاد لم تعمل على زيادة لحمة مواطنيها طوال عقود. ولوحظ أن الرئيس وحيد لم يلغ جولته خارج البلاد التي بدأت بعد اندلاع الأحداث وقادته الى منطقة الشرق الاوسط وافريقيا. على رغم الانتقادات التي تعرض لها