لا تحبذ السياسة الحزبية التقليدية في السودان ولادة الاتفاقات والصفقات السياسية بعمليات قيصرية. وربما لهذا حين اشتدت الأزمة التي تمزق البلاد منذ انقلاب الفريق عمر البشير في 1989، وتضافرت عوامل خارجية من شأنها أن تحدث واقعاً قد لا يريده كثيرون، نشط الزعماء التقليديون في ا لبحث عن حل سوداني-سوداني، لا يضيره أن يكون وراءه المصريون والليبيون، فحين يستسهل السوداني الأمور يعتبر نفسه والمصري والليبي "حتة واحدة". ولكن هل يجدي ذلك كله في التوصل الى حل يرضي القوى الأساسية والدول المجاورة؟ أم أن القسمة حصلت في واشنطن وجاءت بها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت الى المنطقة منذ أسابيع في زيارتها الشهيرة لنيروبي حين رفضت التدخل المصري الليبي في القضية السودانية؟ ويزيد الأزمة السودانية إستشكالاً وغموضاً أنها تأتي كل يوم بجديد يزيد التأزم وتعقيد الخصومات بين مختلف الأطراف المعنية. فقد طرأ منذ أسابيع عامل جديد ومهم يتمثل في اندلاع خلاف حاد بين الرئيس السوداني ورئيس البرلمان الدكتور حسن الترابي الذي يوصف على نطاق واسع بأنه القوة الدافعة للنظام وعقله المدبر. وكانت أبرز عناوين الخلاف سعي الترابي الى تعديل دستور العام 1998 بما ينتقص صلاحيات رئيس الجمهورية، خصوصاً سلطته في تعيين الولاة حكام الأقاليم واستحداث منصب لرئيس وزراء يعنى بتسيير الجهاز التنفيذي يكون مسؤولاً أمام البرلمان. وأثار الخلاف الذي أحدث استقطاباً وإنقساماً حاداً في الولاءات التقليدية داخل النظام حديثاً عن احتمال حسمه بالقوة العسكرية، وهو احتمال أكد الترابي أنه يستبعده. وحدا ذلك بالصحافة الى الخوض على نطاق أوسع في القوة التي يتمتع بها الفريق البشير ومدى قدرته على إتخاذ إجراء مناوئ لرئيس السلطة التشريعية. وزاد الأمور تفاقماً أن هذا الخلاف الأخير أعقب خلافاً أكثر حدة في شأن الوفاق الذي تنافس عليه الرجلان القويان في السودان، ولم يحسم أمره حتى بعدما سارع البشير الى تكوين لجنة حكومية للوفاق، قلل الترابي من شأنها حين وصفها بأنها لن تعنى بأكثر من تدبير تأشيرات الدخول والخروج والإجراءات الإدارية الأخرى. وجاء هذا الشقاق نفسه إثر خلاف مماثل في المؤتمر التأسيسي لحزب "المؤتمر الوطني" الحاكم انتهى بانتخاب الترابي أميناً عاماً ذا صلاحيات أوسع من السلطات الممنوحة لرئيس الحزب وهو الفريق البشير. ولكن ماذ يريد الترابي؟ رئاسة الدولة؟ لا. هكذا أجاب الزعيم السوداني الذي يناهز ال 70 عاماً، بدعوى أنه يؤمن بأن من تجاوزوا ال 60 عاماً لا ينبغي أن ينافسوا الشبان في شغل المناصب القيادية. وماذا يريد البشير؟ الاستمرار في الرئاسة؟ إن كان الأمر كذلك فهو حصل على تعهد من الحزب الحاكم بترشيحه لولاية ثانية العام 2001. غير أن الحقيقة - وهي نسبية بالطبع - تتمثل في أن رئيس البرلمان قرر - على ما يبدو - طي صفحة الحاضر وفتح صفحة المستقبل الذي يرى فيه نظاماً حزبياً تعددياً شديد الإنضباط. ويرجح أن استحداث منصب رئيس للحكومة قصد به طمأنة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي الذي لا يزال يتكتم على طبيعة الاتفاق الذي توصل اليه مع صهره الترابي في جنيف في أيار مايو الماضي وربما مع الفريق البشير في أديس أبابا الأسبوع الماضي، إذ ترددت معلومات غير مؤكدة عن لقائهما. وكان المهدي قد أومأ مراراً الى أنه معجب بالجمهورية الرئاسية في فرنسا، وهو ما تجري التهيئة له في السودان من خلال مناقشة التعديلات المقترحة في دستور العام 1998. ولكن هل يعني حل الخلاف بين الترابي والمهدي والبشير إغلاق ملف الأزمة السودانية؟ أين الحزب الكبير الآخر الذي يتزعمه السيد محمد عثمان الميرغني؟ وأين العقيد جون قرنق الذي يتزعم كبرى قبائل الجنوب السوداني الدينكا؟ وأين الولاياتالمتحدة ومصر وليبيا ودول الجوار الافريقي من حل لن يحل شيئاً، بل قد يزيد عزلة النظام وإنكفاءه على نفسه؟ الارجح أن النزاعات المتفجرة في بؤرة الأزمة السودانية ستواصل غليانها وتشظيها الى حين حسم النزاع داخل النظام بين الترابي والبشير، ثم بعد ذلك حسم النزاع الخارجي بين المهدي من جهة والميرغني والشيوعيين والأحزاب الجهوية من الجهة الأخرى. وطبعاً يتعين حسم التضارب بين المبادرتين العربية والافريقية لتحقيق الوفاق في السودان، وهو أمر قد يتطلب جهوداً ديبلوماسية بين العواصم الافريقية المعنية وما وراء المحيط الأطلسي. وقد يعني ذلك - عملياً - أن حلحلة مشكلات السودان قد تستغرق ما بقي من العام الحالي ومعظم شهور السنة الجديدة. غير أن ما بقي في بنود العام الحالي اجتماع مهم قررت هيئة القيادة العليا للمعارضة السودانية عقده في العاصمة الأوغندية كمبالا في 6 كانون الأول ديسمبر المقبل، لحسم خلافاتها في شأن تسمية وفدها الى اجتماعات اللجنة التحضيرية للمبادرة المصرية- الليبية المشتركة، وهو إجراء تأخر طويلاً بسبب تحفظات العقيد قرنق على المسعى الليبي-المصري، خصوصاً بعدما أعلنت واشنطن أنها لا ترى للمشكلة حلاً إلا من خلال مبادرة السلام التي ترعاها منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف إيغاد التي تضم أربعاً من دول الجوار السوداني. ولم يتضح بعد هل سيتمكن رئيس البرلمان السوداني من مقابلة صهره مرة ثانية بعد لقائهما الأول في جنيف أم أن الاجتماع المقبل قد يتم داخل السودان، إذ كثرت المؤشرات الى أن عودة المهدي غدت وشيكة، خصوصاً في ضوء ما تردد عن لقائه مع الرئيس السوداني.