صحة الاقتصاد أهم من حجم الترسانة. وغابة الرؤوس النووية لم تنقذ الاتحاد السوفياتي من الثمن الباهظ للفشل الاقتصادي. وسباق التسلّح المنهك كان أقسى على موسكو من اطلاق النار على حلفائها. والبندقية لا تغني عن رغيف والمدفع لا يغني عن كتاب. وبمقدار ما تبدد الترسانة مخاوف صاحبها تبدد فرص بناء مستقبل الناس وتحسين احوالهم. هذا ما تقوله التجارب. وهي تشير ايضاً الى ان عائدات الاستقرار غالباً ما تفوق عائدات الانتصار، خصوصاً اذا لم يفسح المجال لبناء الدولة وخوض معركة التنمية واعطاء الاولوية للارقام على حساب الاوهام. هذه الحقائق التي اكدتها مجريات العقد الماضي على نحو قاطع، قفزت الى الواجهة بفعل حدثين كبيرين شهدتهما الاسابيع الماضية على رغم الاختلاف في الطبيعة والمسرح، وهما: "المبارزة" النووية الهندية - الباكستانية، والحرب الاريترية - الاثيوبية. وفي الحالتين بدا ان لغة الماضي نجحت في التغلّب على لغة نهايات القرن. ففي شبه القارة الهندية، وهو يعجّ بمئات الملايين من الفقراء، اندفع الناس الى الشوارع ابتهاجاً باقتحام النادي النووي. فالهند التي انتظرت طويلاً اعتراف العالم بها كدولة كبرى وأُبقيت خارج حلقة الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن، كسرت باب النادي النووي ودخلته. وباكستان التي يراودها الحلم النووي منذ ايام ذو الفقار علي بوتو اغتنمت الفرصة لتحجز مقعدها. واضافة الى التاريخ الدامي المثقل بالحروب والشكوك بين البلدين، جاء الاندفاع النووي ثمرة لرغبة حكومتين ضعيفتين في دغدغة المشاعر القومية والوطنية سعياً الى تفويض بإقامة أطول في الحكم. كان يمكن لهذه الحسابات ان تكون صحيحة في السابق. ثم ان السلاح النووي ورقة يستحيل استخدامها وحتى التلويح بها، وتستمد قيمتها من امتلاك الآخر لما يشبهها وهو ما يلغي الامتياز ويحولها في افضل الاحوال الى ورقة ردع متبادل باهظ التكاليف يحتمه توازن الرعب. لكن قنابل الفقراء لا تحل مشاكل الفقراء، وسباق التسلح يضاعفها. فضلاً عن ان غياب الترسانة النووية لم يمنع المانيا واليابان من دخول نادي الكبار. وبهذا المعنى اظهرت المبارزة الباكستانية - الهندية ضعف النظام الدولي الجديد واستمرار البلدين في الغرف من القاموس القديم. الحدث الآخر كان حرب الفقراء بين اريتريا واثيوبيا. فقد قدمت هذه الحرب دليلاً جديداً على بقاء مناطق شاسعة من العالم خارج لغة النظام الدولي الجديد ودعواته الى احلال التفاوض مكان التحارب. في عالم المعسكرين دفع القرن الافريقي ثمن اقامة دوله على جانبي خط التماس. ودفع ثمن الحروب التي خاضها الكبار عبر وكلائهم في المنطقة والذين توهموا جني مكاسب وتقاضي ثمن المواقع الاستراتيجية. بعد انهيار عالم المعسكرين لم تتأخر المنطقة في ارسال الاشارات المقلقة. فتح الصوماليون باب الانتحار على مصراعيه ولم ينتصروا إلا على الرغبة الدولية في منعهم من استكماله. لكن آمالاً عُلّقت على اريتريا واثيوبيا الوافدتين من ركام نظام منغيستو هايلي مريام وعلى رفيقي السلاح أفورقي وزيناوي. وبدا ان الولاياتالمتحدة تراهن عليهما كنموذج افريقي جديد وكجدار امام الاصولية. ومع اندلاع الحرب التي يصعب ان تنجب منتصرين وتنذر بيقظة المشاعر القومية الموتورة على الحدود وفي الداخل الاثيوبي بدت المنطقة اسيرة الماضي تماماً. فأفورقي الذي ربح حرب الاستقلال بدا مندفعاً الى دور اكبر من حجم بلاده وانطلاقاً من ثقة مفرطة بالنفس. وزيناوي لم يتردد في ايقاظ "الشياطين" القديمة علماً ان حروب القوميات الكامنة في اثيوبيا قابلة للاشتعال العلني. وعلى جانبي خط التماس بدا ان الحرب ستنجح في قتل اناس كثيرين وقضايا كثيرة بينها مشروع الدولة وفرص التنمية وفرص ترسيخ الاستقرار. طبعاً يمكن اجراء جردة حسابات أولية بالرابحين والخاسرين تتناول الولاياتالمتحدة واسرائيل والسودان. وواضح ان الخرطوم تلقت هدية ثمينة باندلاع حرب بين دولتين تدعمان القوى السودانية المعارضة. لكن الأخطر من كل ذلك ان حروب الفقراء، كما قنابل الفقراء، تنذر بإنجاب المزيد من الفقراء.